Tuesday, February 23, 2021

تجليات رؤية الله للإنسان

 




لنفترض أنك تعمل معلّما (أو معلّمة) في مدرسة ابتدائية.. جاءت نهاية العام ووجب عليك أن تقدم كشوفات علامات الطلاب النهائية.. لا شك أنك ستقوم بكل بساطة بجمع نتائج امتحاناتهم للحصول على المجموع النهائي.. لكن ماذا إن أخبرك المدير أن النظام قد تغير.. وأن نتائج الطلاب تشكل 80% فقط من المجموع النهائي.. وهناك 20% متروكة لتقديرك أنت.. السؤال هنا.. هل ستضع تلك العلامة كنسبة من مجموع الطالب أم ستضعها بحسب رؤيتك الخاصة لكل طالب بعيدا عن أدائه في الامتحانات؟ 


بنفس المنطق.. هل لنا أن نتساءل عن كيف يرانا الله؟ بعيدا عن النواهي والأوامر ونتائج الأداء.. كيف يرانا؟ ما الذي يشكل رؤيته لنا كبشر عاديين؟ كمحاسبين وممرضين ومعلمات وسكرتيرات وربات بيوت؟  سؤال مهم.. لي على الأقل.. لكن قبل محاولة الإجابة عليه.. لنقرأ معا هذه الأسطورة اليونانية اللطيفة..


تقول الأسطورة.. أن زيوس كبير الآلهة.. أوكل إلى مستشاريه بروميثيوس وأخيه أبيمثيوس مهمة خلق البشر والحيوانات.. نحن البشر كنا من نصيب بروميثيوس.. وصاحبنا هذا كان صانعا ماهرا.. لكنه كان بطيئا في عمله مقارنة بأخيه.. فلما انتهى أخيرا من صنع جسد الإنسان وأراد أن يمنحه بعض المميزات.. اكتشف أن أخاه كان قد أنهى خلق الحيوانات مبكرا، وأعطاها كل المميزات الممكنة من سرعة وقوة وحواس خارقة وقدرة على السباحة والطيران.. الخ.. ولم يجد المسكين بروميثيوس أي ميزة باقية يمكن أن يعطيها لمخلوقاته سوى المعرفة، فمنحهم المعرفة.. وفي مرحلة لاحقة سرق لهم قبسا من نار.. واكتشف زيوس السرقة وعاقبه. الخ.. قصة جميلة لمن أراد أن يستزيد لكن نكتفي بهذا القدر هنا..


من قصة بروميثيوس هذا.. ننتقل إلى القرآن وأول مشاهد خلق الإنسان.. مشهد الملأ الأعلى إذ  يختصمون.. يخلق الله بشرا من طين.. تعبّر الملائكة عن قلقها بأنه سيسفك الدماء.. فلا يردّ الله عليهم بأن هذا المخلوق سيكون مسالما.. بل يحدد لهم بالتجربة العملية.. صفة هذا المخلوق الأولى والأساسية.. مخلوق عاقل.. "وعلّم آدم الأسماء كلها" إلى آخر الآية..


 هذه إذن باختصار رؤية الله لنا.. كائنات عاقلة.. تفكر وتستخدم عقلها.. وهو ما حاولت الأسطورة اليونانية اللطيفة مقاربته.. لكن الأمر لا يتوقف هنا.. بل يشرح الله لنا في القرآن الكريم تجليات مختلفة لهذه الرؤية.. وكيف تختلف رؤية الله للإنسان بحسب تعامل هذا الإنسان مع عقله.. ضعوا أحزمتكم لنبدأ الرحلة.. 


أول تجلي لرؤية الله لنا يحدث عندما يميل الإنسان لاتجاه معين أو يفعل شيئا ما يناسب هواه.. وإذا ما حاول أحد نقاشه فيه رفض حتى فكرة النقاش.. لا يريد حتى أن يستمع إليك.. أو يستمع وكأنه لا يستمع.. فلا يفكر أبدا بما قيل.. بل أن قراره بالرفض محسوم سلفا.. ما يفعله يروقه وهذا يكفي.. وهنا كان الوصف الإلهي لهؤلاء قاسيا فعلا.. "أرأيت من اتخذ إلهه هواه.. أفأنت تكون عليه وكيلا.. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلا" 


أول أمر تشرحه لنا هذه الآيات هو مركزية السمع في الخطاب الإلهي.. لأن السمع هو مفتاح العقل.. أول خطوة ليعقل الإنسان شيئا هي أن يسمعه.. ولذلك عندما وصف النبي نوح كفر قومه قال "وإنني كلما دعوتهم لتغفر لهم.. جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم"... لا يريدون أن يسمعوا.. لكن لماذا؟ لأن العقل وإن كان أداة منطقية يمتلكها الإنسان.. لكن النتائج التي يخرج بها خارجة عن إرادة الإنسان.. بمعنى.. قد يصل عقلك إلى نتيجة تخالف هواك ولن تستطيع تغيير ذلك.. مثال بسيط.. لنفرض أنك تشجع ناديا رياضيا لكرة القدم.. وأثناء المباراة قاموا بإحراز هدف من تسلل واحتسبه الحكم.. هنا مهما كان حبّك للنادي.. فلن تستطيع إقناع نفسك أن هذا الهدف صحيح.. لأن عقلك قال أنّه تسلل.. قد تقول بدافع المكابرة للناس أنه هدف صحيح.. وتحاول إقناع العالم كله بذلك.. لكنك أبدا لن تقنع عقلك بذلك! النتائج التي يصل إليها عقلك لا تخضع لأهوائك..


لهذا السبب كان قوم نوح يرفضون السمع حتى.. لكي لا تقتنع عقولهم.. ولهذا السبب نزع الله عن هؤلاء الذين يرفضون استخدام عقولهم.. صفة العقل نفسها. أي كأنه يقول.. أنت يا محمد تظن أن هؤلاء بشر.. لكنّهم ليسوا بشرا.. لا يسمعون ولا يعقلون.. هؤلاء دواب.. حتى من يستمع عضويا وهو فعليا لا يستمع.. حاز الوصف نفسه.. (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون.. إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون).. 


هذه اول تجليات رؤية الله لعقل الإنسان.. عندما ترفض استخدامه.. ينظر الله لك بنظرة دونية تجعلك أنت والدابة سواء.. بل هي أفضل منك.. لأنها وإن لم تكن تسمع وتعقل.. لكنها قد تتعلم بالممارسة فتعي وتفهم.. أما أنت فلا.. أنت والميت سواء (إنك لا تسمع الموتى.. ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولوا مدبرين).. 


التجلي الثاني لرؤية الله لنا ككائنات عاقلة، يتضح في قصة الوليد بن المغيرة.. والوليد بن المغيرة لمن لا يعرفه هو والد الصحابي خالد بن الوليد.. المغيرة هذا كان من أغنى وأعظم رجال قريش.. إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق.. وكان يسمى الوحيد.. لأن قبائل قريش كانت تكسو الكعبة عاما.. وهو وحده يكسوها عاما.. وعندما اعترض القرشيون أن الرسالة أنزلت على محمد عليه السلام المنتمي إلى عائلة متواضعة.. وقالوا "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".. كان العظيم المقصود في مكة هو الوليد بن المغيرة.. والآخر في الطائف هو عروة بن مسعود الثقفي.. 


الحاصل أن هذا الرجل ذا العقل الراجح، لما استمع للقرآن في أول مرة.. (ليس من الذين لا يستمعون طبعا).. أيقن تماما أن هذا الكلام ليس بكلام بشر.. عقله أكد له ذلك بكل بساطة.. فقال لقريش أن ما يقوله محمد ليس بكهانة ولا شعر.. ولا بكلام جان.. بل وصف القرآن وصفا جميلا فقال (إن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى عليه).. لكن لما أحّس الرجل أن موقفه هذا وموافقته على ما يقوله محمد، قد يكلفه زعامة قريش.. جلس يفكر في الأمر.. ووصف صراعه النفسي خطوة بخطوة في القرآن في سورة المدثر.. وكأن الله عز وجل يراقب ماذا سيفعل هذا الرجل عندما حكم عقله بشيء.. وهواه بشيء آخر..


"إنه فكر وقدر.. فقتل كيف قدر.. ثم قتل كيف قدر.. ثم نظر.. ثم عبس وبسر.. ثم أدبر واستكبر.. فقال إن هذا إلا سحر يؤثر".. هذا ما قاله الوليد في نهاية الأمر.. هكذا خان عقله.. فقال أنّ هذا القرآن سحر.. ومحمد ما هو إلا ساحر.. فماذا كان رد الله السريع والحاسم على خيانة الوليد لعقله؟ "سأصليه سقر".. تخيل غضب الله.. الهاء تعود على الوليد.. تعهد شخصي من الله ضد شخص!! سأضع الوليد في قسم خاص في جهنم.. مخصص لأولئك الذين منحتهم عقولا راجحة لكنهم خانوها!! 


التجلي الأخير لرؤية الله لنا يمكن شرحه كالتالي.. أثناء قراءتي لتاريخ ابن كثير.. قرأت عن أحد القادة المسلمين (لا يحضرني اسمه الآن).. المهم أن هذا الرجل أوغل في دماء المسلمين طولا وعرضا.. وعندما أحس بالندم واقتراب الأجل.. ترك كل شيء وراءه وذهب ليعيش آخر أيامه في المسجد النبوي في المدينة المنورة، يستغفر الله هناك.. طبعا هذا التصرف كان شائعا عند السلف (وإن كان البعض يعده بدعة) لكنه يستند إلى الآية الكريمة التي تقول "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول.. لوجدوا الله توابا رحيما.. " آية لها وزنها وتعاضدها آيات أخرى تفيد بجاه الرسول عليه السلام عند الله عز وجل.. لكن العجيب أن القرآن الكريم في مواضع أخرى ينسف هذا المنطق تماما.. ويجعل استغفار الرسول كعدمه “استغفر لهم أو لا تستغفر لهم.. إن تستغفر لهم سبعين مرة لن يغفر الله لهم!".. على من كل هذا الغضب؟


 على أولئك الذين فعلوا تماما كما فعل الوليد.. لكنهم زادوا عليه.. وصلت عقولهم لنتيجة معينة.. لكنهم لم يكتفوا بخيانة تلك العقول.. لكنهم قرروا أيضا أن يزوروا عقول الناس ويخادعوهم.. يرون الحق رأي العين.. لكنهم يقولون الباطل ويزينونه بصورة الحق.. وليس لديهم جرأة الوليد ليجاهروا بعدائهم.. فتراهم يتظاهرون بالصلاح أمام الناس.. ويقولون أنّ ما نقوله لكم هو الحق.. بينما يعلمون تمام العلم أنه الباطل.. عاشوا في زمن الرسول ويعيشون الآن بيننا.. تراهم وتسمعهم كل يوم.. في التلفاز والإذاعة ووسائل التواصل.. المنافقون.. أصحاب الدرك الأسفل من النار..

ألا يوجد نوع رابع نطمئن أنفسنا به؟ يوجد.. 

"الذين يستمعون القول.. 

فيتبعون أحسنه..

أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب


كتابات ديك الجن

Tuesday, October 15, 2019



حركة الفتوحات او الغزوات الإسلامية كانت حتمية ليس فقط من اجل الغنائم او تعزيز قدرات الدولة العربية الناشئة انما كانت فى الاساس حتمية اجتماعية لتجنب الاقتتال الداخلى القبلى كما يقول برنابى روجرسون ان ابو بكر كان يدرك بعد حروب الردة وتوحيد القبائل العربية تحت راية الإسلام / قُريش..
ان الإنتصار الكامل الإسلام داخل شبه الجزيرة العربية كان سيشكل ضغطاً لا يُحتمل على الديناميات الإجتماعية للقبائل، فالغارات والثارات والنزاعات على الاراضى وحول المراعى كل هذا كان هو دم الحياة من الناحية العملية لكل القبائل البدوية ..
وكان تغيير هذا النمط القبائلى البدوى يستغرق وقتاً طويلاً جداً لأن بحسب كلام برنابى روجرسون ان السلام والروحانية الموجودة فى قلب رسالة الإسلام هتستلزم جهد كبير كى تدخل فى ارواح وقلوب البدو وكى يفهموا انه من الاثم ان يشن المرء غارات على جيرانه المسلمين من اجل الاراضى او المراعى ..
بالتالى لابد من استخدام طاقات البدو المرعبة بعد توحيدهم فى سياق قضية مناسبة وهى قضية الفتوحات باعتبارها حرب مقدسة او جهاد وفى نفس الوقت بإمكانهم تحقيق المكاسب المادية والغنائم ولحسن الحظ كان العدو الخارجى موجود ومنتظر سواء الفرس فى العراق او البيزنطيون فى الشام
ومن هنا بدأت حركة الفتوحات باستخدام هذه الطاقات لدى البدو وحتى استخدام النزعة القبلية فى الرغبة فى الثأر كما حدث فى ما اطلق عليه ليلة الرعب للجيش الفارسى اثناء معركة القادسية بين الجيش العربى والجيش الفارسى بعد ثلاثة ايام من الاشتباكات المتواصلة بين الجيشين دون نتيجة حاسمة
فشن المقاتلون البدو ( وكان اغلب الجيش العربى من اليمنيين ) وقت الفجر هجوماً تلقائياً بدون تخطيط عسكرى اشبه بحرب العصابات على معسكرات الجيش الفارسى بعد تنادوا للثأر لمن قُتل من نفس القبائل وفتح هذا الهجوم الثغرة فى معسكر الفرس حتى انها تسببت فى قتل رستم قائد الجيش الفارسى
ونجح بعدها الجيش العربى فى اكتساح المعسكر وهروب الجيش الفارسى من العراق بالكامل وتحركهم نحو جبال زاجروس كمنطقة آمنة .. هنا نجد ان حركة الفتوحات كانت ذات اهمية اجتماعية اولاً وسياسية ثانياً ولا علاقة لها بالإسلام كدين من قريب او بعيد
بل ان حتى بعض قبائل العرب المسيحية مثل بنى نمير وبنى تغلب لما دعاهم ابن حارث قائد الجيوش العربية على جبهة بلاد فارس للإنضمام للجيش العربى (المسلم) كتأكيد للإنتماء لعروبتهم وافقوا وكانوا فى مقدمة الجيش المهاجم للجيش الفارسى وتوفى فى الهجوم شيخ بنى نمير


Sunday, July 22, 2018

حاكمية الله وسلطان الفقيه - الجزء الثانى ( بين الإمامة وولاية الفقيه ) - الدولة الصفوية الايرانية

اخذت فكرة ( ولاية الفقيه ) تحتل حيزا من افكار الفقهاء الشيعة على الرغم من ان كثيرا منهم انكر الولاية العامة بالمعنى الذى تقدم ذكره ، وقالوا ان الولاية خاصة بالنبى والائمة المعصومين ولا تنتقل فى عموميتها الى الفقيه الجامع للشرائط وأن " ولاية الفقيه "هى ولاية جزئية محدودة .

لقد اريد لفكرة ولاية الفقيه ان تتحول الى مفهوم متكامل فى صيغتها الاخيرة الراهنة ، بحيث يتم تجاوز الفصل الذى كان قائما بين الولاية الدينية والولاية السياسية للفقيه ، وهو فصل اجازه اغلب الفقهاء طوال القرون الاربعة الاولى من عصر الغيبة ، وذلك أن " ولاية الفقيه " لم يكن لها انذاك أثر لدى الفقهاء المؤسسين الكبار فى المراكز العلمية الشيعية العريقة فى العراق ، بحيث لم يخرج التفكير الفقهى فيها ( * عن الرأى المشهور عند فقهاء تلك الحقبة التالية لسنة الغيبة الكبرى والذى ذهب الى عدم مشروعية العمل لإقامة حكم اسلامى على مذهب اهل البيت ) ، وإبطال السيف او الجهاد حتى يظهر الإمام المهدى ويأمر بذلك ، وهذا ما يفسر انتشار نظرية الفصل ما بين التشيع الفقهى والتشيع السياسى فى الابحاث الفقهية الشيعية الكلاسيكية فى عصر الغيبة ، وبالتالى إرجاء قيام الدولة الاسلامية على المذهب الشيعى الاثنى عشرى وتعطيل هذا الهدف الى ان ياذن الله بطهور الإمام ( المهدى ) الذى لا يجوز شرعا حمل السيف والجهاد والخروج للإمامة والحكم الا تحت رايته المباشرة .

ولم يجسر اى فقيه طول تلك الفترة على ادعاء " نيابة الامام " الى ان قامت الدولة الصفوية الايرانية 905/1051هـ فى ظل ظروف مشابهة لقيام كثير من سلطنات التغلب والامر الواقع التى نشأت بعد ضعف وتفكك الدولة العباسية .

قامت الدولة الصفوية فى مناخ الصراع العثمانى - الايرانى والذى استخدمت فيه التعبئة المذهبية الى اقصى حد ، فقد جرى تنصيب الشاه اسماعيل وهو لما يزل فى سن الثالثة عشر ، وكانت وراءه حركة صوفية قوية ( * وهى الطريقة الصفوية التى اسسها الشيخ صفى الدين ) اضفت نوع من القداسة الالهية على ادعاءاتها ، فقد قيل ان الامام المهدى ألبس الشاه اسماعيل - مؤسس الدولة الصفوية - وهو فى طريقه الى مكة التاج الاحمر ، وعلق به السيف قائلا : " اذهب فقد اذنت لك " ، مما يوهم بان المهدى منح الشاه صفة ( ولاية خاصة ) كتلك التى منحها لسفرائه الاربعة ، حدث ذك على الرغم من تكذيب الامام المهدى المسبق على لسان سفيره الاخير ( السمرى ) لأى ادعاء يمكن ان ينشأ بلقائه ومقابلته ، وذلك لقطع الطريق على المدعين فى فترة غيبته الكبرى ، لقد كان الشاه اسماعيل الصفوى يؤكد لمريديه انه ليس بينه وبين المهدى فاصل ، وان " ولايته صادرة عن ختم النبوة وكمال الولاية " * الصلة بين التشيع والتصوف / كامل مصطفى *  

نجح الشاه اسماعيل فى توحيد البلاد الايرانية مستفيدا من حالة الضعف والفوضى التى سادت تلك المنطقه فى اعقاب الحقبة الايلخانية والحقبة التيمورية ، حيث تصارعت القبائل التركمانية فى ما بينها وحولت البلاد الى مقاطعات وامارات ، وقد استطاع الشاه اسماعيل ان يمد سلطان دولته الى بغداد والاماكن المقدسة فى العراق ، ولكنه ما لبث ان توفى وله من العمر ثمانى وثلاثون سنة ليتسلم الملك ابنه ( طهماسب ) الذى تابع خطوات بناء الدولة عسكريا واداريا ودينيا .

ان موقف العلماء من الحكم الصفوى مازال يشوبه الغموض ، وان كان صحيحا ان بعض العلماء الشيعة قد أيد هذا الحكم ، فإن السبب واضح ، وهو إقامة بنية تحتية لدولة إسلامية شيعية ، فقد ادعى الشاه اسماعيل ان نسبه يصل الى الإمام موسى الكاظم ، وقد استفاد الحكام الصفويون بعد من هذا الادعاء الذى يقوم على حجية تحدرهم من سلالة اهل البيت ، ولكن الشئ المؤكد هو ان عدد كبيرا من العلماء الشيعة لم يتخذ موقفا مؤيدا من اعلان الشاه اسماعيل نفسه ( نائبا للإمام ) والشئ الثابت هو ان الصفويين أسسوا لحكم تقوم شرعيته على " تحكيم المذهب الشيعى ونشره على صعيد واسع فى ايران التى كانت لا تزال تغلب عليها الاكثرية السكانية السنية " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

لقد ادت السياسة الصفوية الى تسريع عملية نشر التشيع فى ايران ، وكما يقول وجيه كوثرانى ، ان هذه العملية تمت " عبر جملة من الاجراءات والمظاهر التى استمالت الناس ترغيبا أو ترهيبا أو احتواء ، ومن ذلك على سبيل المثال : مظاهر التقديس التى احيطت بها المقامات والمزارات العائدة الى الأئمة ، والمظاهر الطقسية المؤثرة للشعائر الحسينية فى عاشوراء ، المسيرة التى قام بها الشاه عباس الاول سيرا على الاقدام من اصفهان الى مشهد ( مزار الامام الرضا ) ، هذا بالاضافة الى الاجراءات القمعية والقسرية والمعنوية والمادية والجسدية التى كانت تتخذ حيال السنة لاجبارهم على اعتناق التشيع "  * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

وكان طبيعيا ان تسعى الدولة الصفوية الى توظيف عدد من الفقهاء الشيعة لإتمام هذه العملية ، وان تسعى بشكل حثيث الى استقدامهم من العراق والبحرين وبلاد الشام ، فقد عانت من نقص فى الثقافة الفقهية نتيجة سيادة الفكر الصوفى ونقص اعداد الفقهاء الإيرانيين الذين يحتاجهم جهاز الدعوة فى الدولة الصفوية ، وهذا ما وعاه الشاه اسماعيل ومن بعده ابنه طهماسب الذى استدعى ( الشيخ على بن عبد العال الكركى ) وطلب اليه ان يوطد له دعائم السياسة والملك ويجيز له الجلوس على كرسى العرش بإسم الولاية العامة التى هى من صلاحيات الفقيه ، ولا زالت الكتب التاريخية تحتفظ بالنصوص الواردة فى إجازة الكركى للشاه .

وقد نجح الشيخ الكركى فى تشكيل مؤسسة دينية رسمية مختصة ، تبث التشيع انطلاقا من فكرة الولاية العامة للفقيه ، وبذلك اصبح الشيخ الكركى ( مطلق اليد فى شؤون الدولة الشيعية الجديدة ، الاقتصادية والدينية ، بوصفه نائبا عاما عن المهدى ، وبوصف الشاه نفسه نائبا لهذا الفقيه ) * الصلة بين التشيع والتصوف / كامل مصطفى *  .... وبهذا المعنى اعتبر الشاه الصفوى الشيخ الكركى ( صاحب الدولة الحقيقي ونائب الامام الغائب ، وان على الجميع امتثال اوامره .. فمعزول الشيخ لا يستخدم ، ومنصوبه لا يعزل " * الفكر السلفى عند الشيعة الاثنى عشرية / الجابرى *

ولم يسبق الشيخ الكركى فى طرح مسألة ولاية الفقيه سوى الفقيه ( محمد بن بابويه القمى ) وذلك فى مرحلة الحكم البويهى على العراق الذى كان يتبنى التشيع ، فقد دعا ( ركن الدولة البويهى ) الشيخ بن بابويه ، ليكون مرشدا له فى سياساته وادارته وعلاقته مع الرعية ، وهو ما يعتبر بداية غامضة لفكرة ( ولاية الفقيه ) ، لكن الامر مع الشيخ الكركى مختلف ، فهو يلقب من قبل خصومه بمخترع الشيعة ، ومن قبل انصاره بالمحقق الثانى ، وذلك لدوره المهم فى بناء مؤسسة يدينية تولاها بنفسه ، بالاضافة الى سلسلة من الاجتهادات فى الاحكام التى صدرت عن هذه المؤسسة مثل تجويز السجود على التربة المشوبة بالنار ، ومنع تقليد الميت ، وتجويز السجود للعبد ، واحياء العادات البويهية - الايلخانية مثل تطوير مجالس التعزية فى عاشوراء ، واضافة الشهادة الثالثة ، وحى على خير العمل .. الخ .

لقد اثارت ( ولاية الفقيه ) التى ادعاها الكركى جدلا بين علماء الشيعة ادى الى انقسامهم فى حينه الى فريقين متنازعين ، فقد انتقد فريق من فقهاء النجف ، وهم زملاء الشيخ الكركى ، تأييده للصفويين واعتبار نفسه ( نائبا للإمام ) ، وكان ابرز من وجه اليه النقد فى مناظرات مفتوحة آنذاك الفقيه الذى يوازيه فى العلم والمكانة الشيخ ( ابراهيم القطيفى ) الذى خالفه بعدة مسائل بالإضافة الى قضية ولاية الفقيه ، مثل الخراج ومسألة صلاة الجمعة وفى قضية تجويزه التشهير بالخلفاء الثلاثة الراشدين او لعنهم * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

ويمكن القول من خلال السياق التاريخى الذى نشأت فيه فكرة ولاية الفقيه انها نتاج لشراكة بين الدولة والفقيه ، فمع الدولة البويهية او الصفوية فيما بعد ، كانت الحاجة ماسة لحل اشكالية السلطة فى عصر الغيبة ، ولم يكن من مخرج لهذه الاشكالية سوى بهذه الشراكة بين الفقيه والدولة المتغلبة الناشئة فى ذلك الحين ، وهذه الشراكة ما كان لها ان تنجح الا بعملية ( تكييف ) للفقه الشيعى بما يتناسب والدولة الصاعدة التى ينطبق عليها وعلى ولاتها صفة ( حكام الجور ) حسب التوصيف الشيعى .

ويمكننا ان نعتبر ان اطروحات الشيخ الكركى " استمرار للمدرسة السجالية الشيعية المسيسة التى برزت فى ظل الملوك الإيلخانيين فى العراق وإيران ، كما يمكن اعتباره مؤسسا للمدرسة الصفوية الشيعية التى نقلت حالة التشيع فى ايران من بعدها الصوفى الى بعدها الفقهى المحدد المتوافق مع تحول الدعوة الى دولة والطريقة الى سلطان " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

ومع محمد الباقر الملقب بـ " المقدسى " الذى برز فى اواخر العهد الصفوى بدأت تكتمل المدرسة الصفوية الشيعية ، وكتابه ( بحار الانوار ) يحمل العديد من آثار الفكر الشيعى المغالى بالإضافة الى نزعة فارسية واضحة ، وذلك ما يورده على شريعتى فى تمييزه بين التشيع الصفوى والتشيع العلوى ، من تحليل لروايات اوردها المجلسى تنم عن قمة الدمج بين التعصب المذهبى الصفوى والنزعة القومية الايرانية مثل رواية زواج الحسين من ابنة يزدجرد ، والتى تحمل فى مغزاها اتجاها لجعل اصل الائمة مشتركا مع الفرس * فاضل رسول / هكذا تكلم على شريعتى *

وفى الحقيقة فقد سبق الشيخ ابراهيم القطيفى ، وهو احد كبار علماء النجف الأشرف ، فقهاء كثر عارضوا فكرة ( ولاية الفقيه ) التى كانت تطرح بشكل خجول ، ولعل الفقيه المحقق ( ابن المطهر الحلى ) وهو معاصر لابن تيمية ، اول من عارض ولاية الفقيه ، وتابعه علماء كثر ابرزهم العلامة الشيخ ( مرتضى الانصارى ) صاحب كتاب المكاسب ، الذى يناقش ايضا هذه المسألة ويعرض الدلائل التى تنفى ولاية الفقيه بشكل واضح .

إن أغلب الفقهاء الذين ناقشوا هذه المسألة يأخذون على فكرة ولاية الفقيه العامة مآخذ عديدة من أبرزها :

-  أن الاصل عدم ولاية احد على احد ، وانه اذا قام بالدليل القاطع على ولاية المعصوم وانه " اولى بالمؤمنين من انفسهم " فانه لا دليل على ولاية سواه ، إلا فى القضاء والإفتاء وبعض الامور الصغيرة ، اى لا دليل على ولايه الفقيه المطلقة .

- إن الاخبار الثابتة تبين اختصاص المناصب بالإمام ، خاصة ما يتعلق بالتعزيرات والحدود والحكومات ، وليس للفقيه شئ من ذلك الا ما اعطاه اياه المعصوم ، هو لم يعط الولاية العامة . 

- انه لو كانت الولاية عامة ومطلقة لوجب تساوى الإمام المعصوم مع سواه ، لأن الصلاحيات هى نفسها للإثنين ، فالولاية العامة تؤدى الى تعميم الصلاحيات ذاتها على الفقهاء ، هذا بديهى البطلان ، فلا ولاية للفقيه من الأساس .

- ان قيام حكومة الفقيه يؤدى الى احد امرين : اذا ظلم الفقيه حل الخراب فى الارض وفسدت حكومته ، واذا عدل استقامت الامور بحيث يمكن الاستغناء عن الامام صاحب الزمان ، وبما ان هاتين الفرضيتين باطلتان شرعيا ولا يمكن الايمان بهما ، فلا يبقى الا رفض ولاية الفقيه من جذورها .

- اخبار كثيرة تفيد بأن كل راية تظهر قبل الإمام صاحب الزمان هى راية ضلالة ، ويستشهد اصحاب هذا الرأى بروايات عديدة منها رواية أبى بصير عن الإمام الصادق انه قال : " كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها ظاغوت يعبد من دون الله عز وجل " .. كنا ان هناك اخبارا تؤكد على لزوم السكون والهدوء ما دام الإمام غائبا ، ومنها رواية سدير الصيرفى عن الامام الصادق انه قال : " يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من احلاسه ، واسكن ما سكن الليل والنهار ، فاذا بلغك أن السفيانى قد خرج ، فارحل الينا ولو على رجلك "

وقد استمر عدد كبير من فقهاء الشيعة على معارضتهم لفكرة ولاية الفقيه العامة الى ان تحولت راهنا مع الإمام الخومينى من مجرد فكرة الى خطاب تم من خلاله توسيع صلاحيات الفقيه لتشمل القيادة السياسية وامور الحكم ، وبالرغم من التبنى الرسمى الإيرانى لم يحظ الخطاب ( الولايتى ) بالإجماع فى الوسط الشيعى ، فلا زالت المواقف المخالفة تحتل مكانها البارز .





Wednesday, July 18, 2018

حاكمية الله وسلطان الفقيه - الجزء الاول ( بين الإمامة وولاية الفقيه )

ينطلق الشيعة الإمامية من أن خلافة النبى محمد قد تسلسلت فى الأئمة المعصومين الاثنى عشر وهم على التوالى :

1 - على بن ابى طالب ، بعد النبى وذلك بنص من النبى تشهد له آيات فى القرآن الكريم بحسب التفسير والتأويل الشيعى 
2- الامام الحسن بن على 
3- الامام الحسين بن على 
4- الامام على بن الحسين 
5- الامام محمد بن على الباقر
6- الامام جعفر بن محمد الصادق
7- الامام موسى بن جعفر الكاظم 
8- الامام على بن موسى الرضا
9- الامام محمد بن على الجواد
10- الامام على بن محمد الهادى 
11- الامام الحسن بن على العسكرى
12- الامام محمد بن الحسن المهدى المنتظر 

وهؤلاء الائمة هم خلفاء النبى فى الاعتقاد الشيعى ، فهم يمثلون " استمرار السلطة الاسلامية الشرعية ، وإن كانوا بإستثناء امير المؤمنين الامام على بن ابى طالب لم يتمكنوا من تسلم السلطة الفعلية العامة التى كان يتولاها الخلفاء المتسلطون من الامويين والعباسيين وغيرهم من الحكام المسلمين على مدى التاريخ " *الشيخ محمد مهدى شمس الدين ( فى الاجتماع السياسى والاسلامى )
; وقد مارس هؤلاء الائمة ، منذ تخلى الامام الحسن عن السلطة الرسمية المعلنة فى سنة 40 هجرية سلطة فعلية سرية غير معلنة رسميا على كل الملتزمين بخط التشيع ، بحيث ان حياة المسلمين الشيعة الدينية - السياسية وحياتهم العادية المدنية ، كانت تقوم على اساس فقه ائمة آل البيت 

اما الخلفاء والحكام الفعليون فقد نظر اليهم الشيعة على انهم يتولون منصبا ليس لهم ، ويمارسون صلاحيات لا يتمتعون بها ، فلم يفوضها احد اليهم ، لذا فهم الظالمون وهم ولاة الجور ، ولما كانت سلطة هؤلاء الحكام غير شرعية فقد حرم الائمة معاونتهم فى ظلمهم والعمل معهم ودعم سلطانهم فضلا عن الاعتراف بشرعية سلطانهم ،ولكنهم اباحوا العمل والتعامل معهم لحفظ النظام العام ووحدة الامة ودفع الضرر عن المؤمنين واقامة العدل فى الرعية ، هى هنا اباحة مشروطة ومقيدة وجزئية وليست عامة ، وشرطها الاساسى ان لا تؤدى الى الاعتراف بشرعية ولاة الجور واعانتهم على الظلم ، اما فى حالة ( الضرورة للخوف على النفس او غير ذلك من موارد الضرورة ) فيجوز اللجوء الى ( التقية ) التى يجب ان تمارس فى الحالات غير المشروعة التى تقضى بها الضرورة ، اما بالنسبة للحالات المشروعة فلا معنى للتقية فيها 

يتضح مما سبق ان الموقف الفقهى الإمامى من ولاة الجور يتشابه مع موقف الفقه السنى من الحكام غير الشرعيين الذين لم يصلوا الى السلطة عن طريق الشورى ، وانما استولوا عليها عن طريق القوة والغلبة ..

لكن المشكلة التى تحتاج الى حل على المستوى الفقهى الشيعى هى الموقف من ( الحكم الاسلامى ) فى عصر ( الغيبة الكبرى ) للإمام الثانى عشر ، ومن المعروف ان ( الغيبة الصغرى ) بدأت عام 260 هجرى ، وهى تمثل الفترة التى بقى فيها الإمام محمد بن الحسن المهدى المنتظر مختفيا عن الانظار ، هى فترة استمرت 65 عام حيث كان الاتصال بين الشيعة والامام المختفى تتم بواسطة ( السفراء ) وهم اربعة :
1- عثمان بن سعيد العمرى 
2- محمد بن عثمان العمرى 
3- الحسين بن روح النوبتخى 
4- على بن محمد السمرى 

وقد امتدت الغيبة الصغرى الصغرى الى سنة 329 هـ وانتهت بوفاة السفير الرابع ، وبوفاته بدأت الغيبة الكبرى ، وقد تم اعلان هذه الغيبة الكبرى فى آخر رسالة تلقاها السفير الرابع من الإمام وهى :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، يا على بن محمد السمرى ، اعظم الله اجر اخوانك فيك ، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع امرك ولا توص الى احد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور لأحد الا بعد ان يأذن الله تعالى ،وسيأتى من يدعى المشاهدة قبل خروج السفيانى والصيحة ،فهو مغتر كذاب "

وقد توفى السمرى خلال ستة ايام من تاريخ الرسالة ، اذن كان السفير يقابل الامام شخصيا ويسلمه الكتب والحوائج والاموال ويتسلم منه الاجوبة والتعليمات اعامة والخاصة ، وقد انقطعت الولاية التى تولاها السفراء مع انقطاع توقيع الإمام الى آخر نوابه السمرى وبإنتهاء فترة الغيبة الصغرى وبدء فترة الغيبة الكبرى من دون ان يوصى السمرى بالنيابة الى احد *آية الله الشهيد حسن الشيرازى  ( كلمة الإمام المهدى )


إن فكرة عودة المهدى ( الرجعة ) وظهور قائد فى آخر الزمان يملأ الارض عدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا هى فكرة محورية عن الشيعة ، وهناك احاديث روتها كتب الصحاح عن النبى محمد تفيد بظهور " مهدى " يأتى ليقيم العدل ، لكن الفكرة عند الشيعة تستند الى روايات الأئمة ايضا وهى تفيد بأن المهدى المنتظر هو بالتحديد ابن الإمام الحسن العسكرى ، وانه صاحب الحق الوحيد فى ملئ منصب الإمامة ، وطالما هو فى غيبته الكبرى ، لا يمكن اشغال هذا المنصب باى شخص آخر ، فغيبة الإمام لا تلغى الحق الشرعى والإلهى فى الولاية ، ووفق هذا المنطق يستحيل عمليا تعيين خليفة اخر غير معصوم مع وجود الامام المعصوم حيا ولكن فى غيبته الكبرى ، فمركز الامامة او الخلافة ليس شاغرا بوجود الامام الثانى عشر فى غيبته ، وهو لم ينص على نائب او سفير له ، ولم يجرؤ احد على ادعاء ذلك اعتمادا على حديثه ( فمن ادعى رؤيتى فهو مغتر كذاب )

لذلك تنتفى شرعية قيام دولة اسلامية فى عصر الغيبة ، وهذا هو الرأى الفقهى الشيعى الذى ذهب اليه اغلب الفقهاء قديما وحديثا ، خاصة وانهم يشترطون فى الحاكم ( الإمام ) ان يكون من آل البيت ، معصوما من الزلل والخطأ فى عمله وعلمه ، وعليه فإن غيبة الإمام تسحب الحق من أى من كان ان يدعى الحكم بإسم الدين او ان يدعى الشرعية الدينية

لا شك فى أن هناك إشكالية واجهت الفقه الشيعى واجهت الفقه الشيعى فى هذا المجال ، فالإمام المعصوم حى موجود ،"وهو إمام الزمان ، والفراغ فى السلطة الاسلامية ليس ناشئا عن عدم وجود الامام ،وانما هو ناشئ عن غيابه الذى تسببت به اوضاع الامة نفسها بسيطرة حكام الجور عليها " *الشيخ محمد مهدى شمس الدين ( فى الاجتماع السياسى والاسلامى )

ويناقش جمهور الفقهاء الشيعة مبدأ الشورى " ولا يسلمون بكونه اساسا صالحا لإعطاء شرعية للحاكم المنتخب او المعين على أساسه " *الشيخ محمد مهدى شمس الدين ( فى الاجتماع السياسى والاسلامى ) - والحاكم لا يمكن ان يكون اصيلا مع وجود الامام المعصوم الغائب الذى هو الحاكم الاصيل بمقتضى عقيدة الشيعة الإمامية فى مسألة الإمامة

إن اشكالية السلطة هذه بلورت اتجاهبن عند فقهاء الشيعة :

1- الاتجاه الاول يذهب اصحابه الى عدم مشروعية إقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة الكبرى ، لان اقامة الحكم وتعيين الحاكم ، يقتضيان ممارسة الولاية العامة والتصرف فى اموال المسلمين وانفسهم بمقتضى هذه الولاية العامة ـ وعند اصحاب هذا الاتجاه ، الولاية هى فى الاصل لله وحده ، ولا ولاية لأحد على أحد ، والمؤكد خروجه على هذا الاصل هو ولاية التصرف العامة على المسلمين للنبى محمد وللإمام المعصوم دون من عداهما ، وما عدا ذلك فيبقى مشمولا للاصل الاولى القاضى بعدم ولاية احد على احد ، اما الفقيه الجامع للشرائط فقد دل الدليل على ثبوت بعض الولابات الخاصة المحدودة والمحددة له ، مثل اخذ الاحكام منه على مستوى الفتوى ، وفى القضاء لفصل الخصومات بين المتنازعين وبعض القضايا الاخرى ، هى ما اصطلح عليها فقهيا بـ ( الامور الحسبية ) مثل الولاية على الاوقاف التى لا ولى عليها ، والولاية على الايتام وسائر القاصرين الذين لا ولى لهم ، ونتيجة هذا الموقف الفقهى هى عدم مشروعية السعى الى اقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة

2 - الاتجاه الثانى الذى يذهب اصحابه الى مشروعية اقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة ، ويستند اصحاب هذا الرأى الى ما اصطلح عليه بـ ( ولاية الفقيه ) والدليل عليه عندهم أن الإمام المعصوم قد نصب الفقيه الجامع للشرائط فى عصر الغيبة الكبرى ، وليا عاما ، ولا ية تصرف على المسلمين ، ويرى هذا الاتجاه انه ثبت للفقيه بمقتضى هذه الولاية جميع ما ثبت للإمام المعصوم الولاية عليه ، وهذا الفقيه الجامع للشرائط هو الحاكم الاسلامى المعين بـ ( النصب العام ) حاكما على المسلمين ، وهذا هو اساس مصطلح ( ولاية الفقيه ) ونتيجة لهذا الموقف الفقهى فعلى المسلمين إقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة على اساس ولاية الفقيه ، الذى يعطى الشرعية لكل التصرفات التى يتوقف عليها انشاء الدولة الاسلامية واستمرارها ..





Wednesday, January 11, 2017

الوثيقة القادرية / الاعتقاد القادري

الوثيقة القادرية أو الاعتقاد القادري : هي وثيقة أصدرها الخليفة العباسي القادر بالله سنة 408هـ ، وهى التى حددت المعتقدات العامة للمسلمين ومنعت اى معتقدات اخرى مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة وأغلقت باب الاجتهاد تماما فى وجه الفكر والفلسفة الإسلامية .. فوصلنا الى ما وصلنا اليه من تدهور ..

 والخليفة العباسي القادر بالله مُصَدّر الوثيقة يكنى بأبي العباس ، واسمه أحمد بن الأمير اسحق ، فأبوه لم يكن خليفة ، لكنَّ جده المقتدر بالله ؛ واسمه جعفر ؛ ولقبه أبو الفضل ؛ تولى الخلافة سنة 295 – 320 هـ ، خلع مرتين ثم قتل في الحرب ، والمقتدر هو ابن أحمد أبو العباس الخليفة الملقب بالمعتضد ؛ تولاها من 279-289هـ ، وهذا أي المعتضد هو ابن الموفق ؛ الذي لم يكن من الخلفاء ، والموفق هو ابن الخليفة المشهور المتوكل بن المعتصم . لقد آلت الخلافة إلى القادر صاحب الاعتقاد بعد القبض على الخليفة الطائع ، يوم السبت التاسع عشر من شهر شعبان سنة 381 هـ ، يصفه ابن كثير في بدايته ونهايته في التاريخ ، بأنه من خيار الخلفاء ، وسادات العلماء في ذلك الزمان ، وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد ، وصنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك ، فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث ، وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته ، توفي القادر سنة 422 ه
 وابن كثير إذ يحكم عليه بحسن الاعتقاد إنما ينطلق من رؤيته الأشعرية المخالطة بمقالات من رؤية أهل الحديث ، والأشعرية وحلفاؤهم أهل الحديث أعملوا القتل في رقاب المسلمين دون وجه حق ، فسادت في الأمة بفضل هذا الحلف غير المقدس : " السلطان العباسي ، والأشعرية وأهل الحديث ، والأعاجم في اللسان السلاجقة " التقليد والأسطورة والجبر ، فتهيأت الأجواء للكارثة التي لا زالت الأمة الإسلامية تعاني من شدة وطأتها حتى هذه اللحظة . 



أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ، حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الفراء قال : أخرج الإمام القائم بأمر الله ؛ أمير المؤمنين أبو جعفر أبن القادر بالله ـ في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة ـ الاعتقاد القادري ؛ الذي ذكره القادر ؛ فقرأ في الديوان ، وحضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أنْ يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم . فيه إنَّ هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر وهو :


يجب على الإنسان أنْ يعلم أنَّ الله جل جلاله وحده ، لا شريك له ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، وهو أول لم يزل ، وآخر لا يزال ، قادر على كل شيء ، غير عاجز عن شيء ، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، غنيٌ غير محتاج إلى شيء ، لا اله إلاَّ هو الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ ، لا يستوحش من وُحْدَةٍ ، ولا يأنس بشيء ، وهو الغني عن كل شيء ، لا تخلفه الدهور والأزمان ، وهو خالق الدهور والأزمان ، والليل والنهار ، والضوء والظلمة ، والسماوات والأرض وما فيها من أنوع الخلق ، والبر والبحر وما فيهما ، وكل شيء حيٍ أو موات أو جماد ، كان ربنا وحده ، لا شيء معه ، ولا مكان يحويه ، فخلق كل شيء بقدرته ، وخلق العرش لا لحاجته إليه ، فاستوى عليه كيف شاء وأراد ، لا استقرار راحة ؛ كما يستريح الخلق ، وهو مدبر السماوات والأرضين ، ومدبر ما فيهما ، ومن في البر والبحر ، ولا مدبر غيره ، ولا حافظ سواه ، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم ويحييهم ، والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون والخلق كلهم أجمعون ، وهو القادر بقدرة ، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد ، وهو السميع بسمع ، والمبصر ببصر ، يعرف صفتهما من نفسه ، لا يبلغ كنههما أحد من خلقه ، متكلم بكلام لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين ، لا يوصف إلاَّ بما وصف به نفسه ، أو وصفه به نبيه صلوات الله عليه وكل صفة وصف بـها نفسه ؛ أو وصفه بـها رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فهي صفة حقيقية لا مجازية ، ويُعلم أنَّ كلام الله تعالى غير مخلوق ؛ تكلم به تكليما ؛ وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل ؛ بعد ما سمعه جبريل منه ؛ فتلاه جبريل على محمد ؛ وتلاه محمد على أصحابه ؛ وتلاه أصحابه على الأمة ، ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقا ؛ لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به ؛ فهو غير مخلوق [فبكل] حال  متلوا ومحفوظا ومكتوبا ومسموعا ، ومن قال : إنَّه مخلوقعلى حال من الأحوال ؛ فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه ، ويعلم أنَّ الإيمان قول وعمل ونية ؛ وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح ؛ وتصديق به يزيد وينقص : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وهو ذو أجزاء وشعب ، فأرفع أجزائه لا اله إلاَّ الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الأيمان ، والصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد ، والإنسان لا يدري كيف هو مكتوب عند الله ، ولا بماذا يختم له ، فلذلك يقول : مؤمن إن شاء الله ، وأرجو أنْ أكون مؤمنا ، ولا يضره الاستثناء والرجاء ، ولا يكون بـهما شاكا ؛ ولا مرتابا ، لأنه يريد بذلك ما هو مغيب عنه ، من أمر آخرته وخاتمته ، وكل سيء يتقرب به إلى الله تعالى ؛ ويعمل لخالص وجهه من الطاعات : فرائضه ، وسننه ، وفضائله ، فهو كله من الإيمان منسوب إليه ، ولا يكون للإيمان نـهاية أبدا ؛ لأنه لا نـهاية للفضائل ؛ ولا للمتبوع في الفرائض أبداً ، ويجب أنْ يحب الصحابة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهم ، ونعلم أنـهم خير الخلق بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنَّ خيرهم كلهم وأفضلهم بعد رسول الله ـ صلى الله علية وسلم ـ أبو بكر الصدِّيق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، ثم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، ويشهد للعشرة بالجنة ، ويترحم على أزواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن سب سيدتنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ فلا حظ له بالإسلام ، ولا يقول في معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلاَّ خيرا ، ولا يدخل في شيء شجر بينهم ، ويترحم على جماعتهم ، قال الله تعالى :" وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ "  (الحشر:10) وقال فيهم : " وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) "الحجر:47) ولا يكفر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها ، فإنه من تركها من غير عذر وهو صحيح فارغ حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر ؛ وإنْ لم يجحدها ، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " بين العبد والكفر ترك الصلاة  .. "فمن تركها فقد كفر ، ولا يزال كافرا حتى يندم ويعيدها ، فأنْ مات قبل أنْ يندم ويعيد أو يضمر أنْ يعيد ، لم يصلَّ عليه وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن أبي خلف ، وسائر الأعمال لا يكفر بتركها ، وإنْ كان يفسق حتى يجحدها ، ثم قال : هذا قول أهل السنة والجماعة ؛ الذي من تمسك به كان على الحق المبين ؛ وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ؛ ودخول الجنة إنْ شاء الله تعالى ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وعلم الدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم . وقال عليه السلام : أيما عبد جاءته موعظة من الله تعالى في دينه ، فإنـها نعمة من الله سيقت إليه ، فإن قبلها يشكر ، وإلاَّ كانت حجة عليه من الله ؛ ليزداد بـها إثماً ويزاد بـها من الله سخطا " جعلنا الله لآلائه من الشاكرين ؛ ولنعمائه ذاكرين ، وبالسنة معتصمين ، وغفر لنا ولجميع المسلمين .


Tuesday, December 27, 2016

. الحد الفاصل بين الكفر والايمان وتعريف الإيمان / الكفر

العقائد الأساسية فى الإسلام


العقائد الاساسية التى طلب الإسلام الإيمان بها ، وكانت العنصر الأول من عناصره وهى :


* اولا : وجود الله ووحدانيته ، وتفرده بالخلق التدبير والتصرف ، وتنزهه عن المشاركة فى العزة والسلطان ، والمماثلة فى الذات والصفات ، وتفرده بإستحقاق العبادة والتقديس والإتجاه اليه بالإستعانة والخضوع ، فلا خالق غيره ولا مدبر غيره ، ولا يماثله مما سواه شئ ، ولا يشاركه فى سلطانه وعزته شئ ، ولا تخضع القلوب وتتجه الى شئ سواه " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد " .. " قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " .. " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) "


* ثانيا : أن الله يصطفى من عباده من يشاء ، ويحمله رسالته - عن طريق ملائكته ووحيه الى خلقه ، ثم يبعثهم اليهم رسولا ويدعوهم الى الايمان والعمل الصالح .


* ثالثا : الإيمان بالملائكة " سفراء الوحى بين الله ورسله " وبالكتب " رسالات لله الى خلقه " 

* رابعا : الإيمان بما تضمنته هذه الرسالات من يوم البعث والجزاء " الدار الآخرة " ومن اصول الشرائع والنظم التى ارتضاها الله لعباده ، مما يناسب استعدادهم ، وتقضى به مصالحهم ، على الوجه الذي يكونون به مظهرا حقا لعدله ورحمته وجلاله وحكمته 



وقد جعل الإسلام عنوان تحقق هذه العقائد عند الانسان الشهادة بأن الله واحد ، وأن محمد رسوله " اشهد ان لا إله إلا الله واشهد أن محمد رسول الله " وكانت هذه الشهادة هى المفتاح الذى يدخل به الانسان فى الاسلام ، وتجرى عليه احكامه ، فالشهادة بوحدانية الله تتضمن كمال العقيدة فى الله من جهتى الربوبية " الخلق والتربية " والألوهية " العبادة "والشهادة برسالة محمد تتضمن التصديق بكمال العقيدة فى الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر وأصول الشريعة والاحكام " آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ "


وعليه .. فمن لم يؤمن بوجود الله ، او لم يؤمن بوحدانيته وتنزهه عن المشابهة والحلول والاتحاد او لم يؤمن بتفرده بتدبير الكون والتصرف فيه ، واستحقاق العبادة والتقديس ، واستباح عبادة مخلوق ما من المخلوقات ، ، او لم يؤمن بأن لله رسالات الى خلقه بعث بها الى رسله ، وانزل بها كتبه عن طريق ملائكته ، او لم يؤمن بما تضمنته الكتب من الرسل ، أو فرق بين الرسل الذين قص علينا فآمن بالبعض وكفر بالبعض ، او لم يؤمن بأن الحياة الدنيا تفنى ويعقبها دار اخرى هى دار الجزاء والحياة الابدية ، بل اعتقد ان الحياة الدنيا حياة دائمة لا تنقطع ، او اعتقد انها تفنى فناء دائما لا بعث بعده ، ولا حساب ولا جزاء ، او لم يؤمن بأن اصول شرع الله فى ما حرم وفى ما اوجب ، هى دينه الذى يجب ان يتبع ، فحرم من تلقاء نفسه ما رأى تحريمه ، واوجب من تلقاء نفسه ما راى وجوبه .. من لم يؤمن بجانب من هذه الجوانب أو حلقة من هذه الحلقات لا يكون مسلما ، ولا تجرى عليه احكام المسلمين فى ما بينهم وبين الله ، وفى ما بينهم وبين بعضهم ، وليس معنى هذا ان من لم يؤمن بشئ من ذلك يكون كافرا عند الله ، يخلد فى النار ، وانما معناه انه لا تجرى عليه فى الدنيا احكام الاسلام ، فلا يطالب بما فرضه الله على المسلمين من العبادات ، ولا يمنع مما حرمه الاسلام كشرب الخمر واكل الخنزير والاتجار بهما ، ولا يغسله المسلمون اذا مات ولا يصلون عليه ، ولا يرثه قريبه المسلم فى ماله كما لا يرث هو قريبه المسلم اذا مات ..


اما الحكم بكفره عند الله فهو يتوقف على أن يكون انكاره لتلك العقائد او لشئ منها بعد ان بلغته على وجهها الصحيح ، واقتنع بها فى ما بينه وبين نفسه ، ولكنه أبى ان يعتنقها ويشهد بها عنادا واستكبارا ، او طمعا فى مال زائل او جاه زائف ، او خوفا من لوم فاسد .. فإذا لم تبلغه تلك العقائد ، او بلغته بصورة منفرة او حتى بصورة صحيحة ولم يكن من اهل النظر ، او كان من اهل النظر لكن لم يوفق اليها ، وظل ينظر ويفكر طلبا للحق ، حتى ادركه الموت اثناء نظره - فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود فى النار عند الله ..


ومن هنا كانت الشعوب النائية التى لم تصل اليها عقيدة الاسلام او وصلت اليها بصورة منفرة ، او لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم فى بحثها ، بمنجاة من العقاب الاخروى للكافرين ، ولا يطلق عليهم اسم الكفر ، والشرك الذى جاء فى القرآن هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار ، الذى قال الله فى اصحابه " وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ "

Sunday, November 27, 2016

جيش عبيد البخاري ودورهم في تأسيس الدولة المغربية / انكشارية المغرب



“أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله وشرعه المجموع فى هذا الكتاب (صحيح البخارى) فكل ما أمر به نفعله، وكل ما نهى عنه نتركه، وعليه نقاتل”
السلطان مولاي إسماعيل بن الشريف العلوي

قوة عسكرية تركت بصمة واضحة في تاريخ المغرب العربي العسكري والسياسي منذ القرن السابع عشر الميلادي وهى (جيش عبيد البخاري) او انكشارية المغرب!

يعود تأسيس جيش البخارى الى الدولة العلوية الشريفة (الفيلاليين) وتحديدا في عهد ثاني سلاطينها (مولاي اسماعيل بن الشريف العلوى) الذي حكم المغرب في الفترة من عام 1672-1727م، والذى تولى العرش المغربي بعد وفاة اخيه السلطان (مولاي رشيد بن علي الشريف)، وأسس اول حرس ملكى فى الدولة المغربية، وكان مولاى اسماعيل قد اراد تكوين جيش محترف يكون ولاءه الاول والاخير للسلطان فقط بإعتبار ان الجيش النظامى وقتها فى المغرب كان يعانى من الولاءات القبلية، بالاضافة الى انبهار مولاى اسماعيل الشديد بتجربة الجيش الانكشارى التابع للسلطان فى الدولة العثمانية وبجيش المماليك في مصر، وايضا بوجود تجربة سابقة قد حدثت فى المغرب نفسها وهى تجربة (الحرس الاسود) الملكى والذى كان قد تأسس من العبيد الافارقة على يد السلطان المغربى (احمد المنصور الذهبي) بعد غزو مالى والنيجر، وكان صديق السلطان وكاتبه (عمر المراكشي) والمعروف بإسم “عليليش” والذى ايضا كان والده كاتبا للسلطان المنصور على علم بهذه التجربة السابقة، ويمتلك سجلات بها جميع اسماء واماكن وجود الجنود الذين كانوا يشكلون قوة الحرس الاسود سابقا.

فطلب منه مولاى اسماعيل جمع ما تبقى من القادرين منهم، ولكون الاغلبية الساحقة كانت عبيدا فقد امر السلطان القبائل المغربية بتسليم من كان من نسل هؤلاء العبيد الى الدولة، وهكذا استطاع عمر المراكشى جمع حوالى ثلاثة الاف عبد من قبائل تامسنا ودكالة وبلاد الهبط وقبائل بنى حسن رغم صعوبة الامر وما لاقاه من مشاكل، كما اضيف اليهم (الحراطين) الذين جلبهم مولاي اسماعيل خلال حملاته على بلاد شنقيط (موريتانيا)، وقد قدر عددهم بحوالى الفين من العبيد، بالاضافة الى ان القوافل التجارية التى كانت تأتي من بلاد السودان “غرب أفريقيا” عبر المغرب تجلب معها العديد من العبيد.
تم تقسيم الجيش الى ثلاثة اقسام :
*العبيدخالصي الرقبة: وهم العبيد الذين وجدوا فى دفتر عمر بن قاسم المراكشى (بقايا الحرس الاسود) واشترتهم الدولة من اصحابهم.
.العبيد الاحرار: وهم الذين حرروا وتم ادماجهم فى الجندية ادراجاً اجباريا *
*العبيد الاحرار خالصي الحرية: وقد اختير هؤلاء للونهم .. وكان منهم عدد من الافارقة الذين يسكنون المغرب ولا عصبية داخلية لهم ولا يتميزون بنزعة اقليمية.

هكذا تم تأسيس الجيش بحوالى 14 الف مقاتل بعد ان نجحت الدولة فى جمع عدد كبير من العبيد والاماء، وقد وصل عدد عبيد البخارى الى حوالى 150 الف عبد فى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي.

خضعت قوة هذا الجيش الى تنظيم محكم بما يشبه الاكاديميات العسكرية الحديثة المتخصصة فى انتاج العسكر وتربيتهم تربية عسكرية محضة للانخراط مباشرة فى الجيش عبر عدة مراحل تدريبية طويلة على مدار 6 سنوات من التدريب على الاسلحة والفنون القتالية المختلفة.
يرجع سبب تسميتهم بجيش البخارى الى ان السلطان مولاى اسماعيل جعل صحبة الفقهاء والمحدثين القريبين منه تجتمع مع جنود الجيش الجديد ويقسمون الولاء على صحيح البخاري، بل ان السلطان امرهم ان يحملوا صحيح البخارى فى تابوت يضعونه امامهم فى جميع حروبهم، وفى فترات لاحقة تم تأسيس اسطول بحرى لهذا الجيش امرهم السلطان ان يضعوا نسخ مصغرة من صحيح البخاري مع اعلام السفن.

كالعادة حدث من جيش عبيد البخارى نفس ما حدث من الانكشارية العثمانية بعد فترة من الزمن منذ ان باتت لهم المكانة الابرز واليد الطولى داخل اروقة الدولة، ومع تعاظم دورهم في استتاب الامن وتصديهم للقلاقل داخل الدولة القبلية والاعتماد عليهم اعتمادا شبه كلى فى الحروب الخارجية، وبعد وفاة السلطان مولاى اسماعيل وانتقال السلطة الى نجله الملقب بالذهبى بدأوا بالتدخل فى ادارة الدولة وشؤونها، وقد فشل الذهبى رغم اغداقه الاموال والعطايا عليهم فى السيطرة عليهم والتصدى لقوتهم الى ان عزلوه فى النهاية وانقلبوا عليه، وولوا مكانه اخاه عبد الملك والذى حاول تقليل نفوذهم وتقليل العطايا الممنوحة لهم لينقلبوا عليه هو الاخر ويعزلوه ويُطرد من مكناس العاصمة الى مدينة فاس، ويعيدوا الذهبى مرة اخرى الى الحكم، وبعد وفاة الذهبى واخذ البيعة لاخيه عبد الله استمرت الامور كما هى عليه من خروجهم عن السيطرة وعدم قدرة الحاكم عل تقليل العطايا حتى اوشكت خزينة الدولة على النفاذ، ومع تمردهم اطلق جيش البخارى يده فى الاستيلاء على اراضى الدولة ومنازل الاهالى وطردهم منها، ثم استمر تمردهم بعزل عبد الله والاتيان بأخيه زين العابدين، ثم عزلوه بعد فترة هو الاخر، وتمت البيعة للمستضئ واستمرت الامور على ما هى عليه من سيطرتهم على مقاليد الدولة وعزل السلاطين وتعيينهم حتى تولى مقاليد الحكم (محمد الثالث) بن عبد الله بن اسماعيل، والذى لم يجد حلا للتخلص من نفوذ الجيش البخاري الا بالخروج من العاصمة مكناس الى مراكش، ومحاولة السيطرة عليهم بالتدريج، واستطاع بمرور الوقت تجريد البخاريين من اسلحتهم ونفوذهم، وتسريح اغلبهم والابقاء على بعض كتائبهم.
بعد تاريخي ما زالت ظلاله باقية حتى يومنا الحاضر، إذ ما زالت بعض كتائبهم موجودة، ويشكلون قوة الحرس الملكى المغربى منذ اطلق عليه الملك الراحل محمد الخامس هذا الاسم

https://twitter.com/zoooska