Sunday, November 27, 2016

بلقيس جاهان .. السلطانة رضية سلطانة دلهي





“عمدة النساء وملكة الزمان بلقيس جاهان رضية الدين والدنيا التى قتلها العشق” ..
القرن السادس الهجري .. الدولة الغزنوية وسلالة الأمير محمود بن سبكتكين التى حكمت بلاد الغور وأفغانستان وشمال الهند ..
تبدأ القصة فى وقت حكم السلطان ( محمد بن سام الغورى ) بعد تغلبه على سلالة محمود بن سبكتكين وسيطرته على بلاد الهند وما حولها ، واستعانته فى توطيد ملكه بالمماليك الاتراك الذى كان يشتريهم، ويعتنى بتربيتهم ويوليهم جل اهتمامه، وكان يتعهد بالمناصب القيادية داخل الدولة لمن يلمس فيه التفوق والنبوغ العسكرى والسياسى منهم ..
وكان احد هؤلاء النوابغ هو المملوك التركى ( قطب الدين ايبك ) الذى صعد نجمه سريعا داخل اروقة الدولة وولاه محمود الغزنوى قيادة الجيوش التى قادها لفتح دلهى عام 584 كما ذكر الرحالة المغربى ابن بطوط من انه قد تم تدوين هذا الفتح على محراب الجامع الكبير بدلهى، وقد كافأه محمد الغورى بتعيينه حاكما على دلهى … فى نفس ذلك الوقت كان احد المماليك التابعين لقطب الدين ايبك ( شمش الدين ايلتوميتش ) يظهر على الساحة لتفوقه العسكرى، مما جعل قطب الدين ايبك يوليه اهتمامه وعنايته الخاصة ومحبته لدرجه انه زوجه من ابنته وولاه قيادة بعض الولايات التابعة له ..
عام 603 اغتيل السلطان محمد الغورى ولم يكن له اى وريث، فتولى قطب الدين ايبك حكم البلاد واصبح اول الحكام المؤسسين لدولة سلاطين المماليك فى الهند ، لكنه توفى فى نفس السنة التى تولى فيها الحكم فورثه ابنه آرام شاه فى حكم البلاد، ولكن لاسباب كثيرة لم يكن آرام شاه مقبولا من حاشية القصر وغير مؤهل او قادر على ادارة حكم البلاد، فثار عليه مماليك ابيه الراحل بقيادة شمس الدين ايلتوميتش، وتم عزله وتولية شمس الدين مقاليد الحكم فى دلهى عام 614 والذى واجهته العديد من المشاكل عند توليه الحكم اهمها كيفية الحصول على الشرعية للحكم، خصوصا انه كان مملوكا والديموقراطية الاسلامية لها حدودها والتى لا تجيز اعتلاء العبد المملوك لسدة الحكم ، فكان لزاما عليه لكى يصبح اميرا او سلطانا للبلاد ان يؤمن تحرير رقبته من ارادة سيده ، وكان هذا ما طلبه منه علماء وفقهاء دلهى عندما اجتمعوا به ورفضوا توليه للحكم ..
ويحكى ابن بطوطة انه فى هذا الاجتماع اخرج لهم شمس الدين الوثيقة التى تثبت تحرره من الرق على يد قطب الدين ومختومه بختمه ، عندئذ لم تواجهه اى عقبات فى اقناع الفقهاء الذين قدموا له فروض الطاعة والولاء ولم يتبق وقتها لشمس الدين الا الحصول على الشرعية الدينية متمثلة فى رضا الخليفة العباسى ( المستنصربالله ) الامر الذى لم يكن مستحيلا خصوصا ان شمس الدين كان من الطائفة السنية ،فأرسل شمس الدين الى المستنصر خليفة بغداد طلبا للاعتراف به كسلطان على دلهى وحاكما لها ، فأجابه المستنصر بإرسال وفد عباسى الى دلهى ويتم تكريس شمس الدين رسميا كسلطان للهند ، والذى رد عليه شمس الدين بسك النقود بالصيغة التاليه “ناصر امير المؤمنين الخليفة العباسى”، مبينا ولاءه للخليفة العباسى فى بغداد ، الامر الذى عرضه لمحاولة اغتيال من احد الطوائف الشيعية الاسماعيلية الذين حاولوا قتله عندما كان يؤم الصلاة بالمسجد الكبير بدلهى ..
حكم شمس الدين دلهى لمدة 26 عاما احبه الشعب وكان عادلا فاضلا ونصيرا للمظلومين، وكان قد وضع نظاما للمظالم وهو ان يلبس كل مظلوما ثوبا ملونا ( وكان الزى السائد لاهل دلهى هو الابيض ) حتى يراه شمس الدين اثناء مروره فيعرف انه له شكاية او انه مظلوم فينظر فى قضيته ويرد له مظلمته ، وقد امر بوضع اسدين من الرخام على باب قصره بينهم سلسلة لها جرس حتى يأتى المظلوم فى اى وقت ويحرك الجرس فيسمعه شمس الدين ويخرج له ، وهذا النظام هو ما نفع فى ما بعد ابنته رضية واستخدمته ضد اخيها ركن الدين فيروز .. يقول ابن بطوطة ” ومن مآثر شمس الدين انه اشتد فى رد المظالم وانصاف المظلومين، وامر ان يلبس كل مظلوم ثوبا مصبوغا واهل الهند جميعا يلبسون البياض ، ، فكان متى قعد للناس او ركب فرأى احد عليه ثوب مصبوغ نظر فى قضيته وانصفه ممن ظلمه ، ثم انه اعيا فى ذلك فقال : ان بعض الناس تجرى عليهم المظالم فى الليل واريد تعجيل انصافهم، فجعل على باب قصره اسدين من الرخام موضوعين على برجين هناك ، وفى اعناقهما سلسلتان من الحديد بينهما جرس كبير، فكان المظلوم يأتى ليلا فيحرك الجرس فيسمعه السلطان وينظر فى امره للحين وينصفه ” ..
كان لشمس الدين من الابناء اربعة لم يكونوا من ام واحدة ( ثلاثة ابناء وابنه وحيدة )، وهم ركن الدين فيروز ومعز الدين وناصر الدين ، ورضية .. التى كانت احب ابناء شمس الدين الى قلبه، والتى سماها كولية للعهد من بعده مما اغضب ابناءه، وعلى الاخص ركن الدين فيروز الذى كان يطمح فى الاستيلاء على السلطة بعد ابيه، مما جعله يحاول قتل رضية فى ما بعد .. هذا القرار ايضا قد لاقى رفضا واستغرابا من حاشية شمس الدين وامراءه وعلماء دلهى ( لكونها امرأة )، مما جعلهم يحاولون الضغط عليه لاقناعه بالعدول عن هذا القرار الغريب من وجهة نظرهم، فقال لهم سمش الدين ” اولادى جميعا غير قادرين على ادارة شئون البلاد من بعدى ، وابنتى رضية هى الجديرة بأن تحكم بعدى ) ..
رضية الدين والدنيا ..
نشأت رضية فى حضن ابيها طفلة مدللة بين اخوتها لما كانت تتمتع به من الذكاء والحكمة والمعرفة، فقد عهد ابوها بتربيتها وتعليمها الى فقهاء وعلماء دلهى، فحفظت القرآن الكريم والمت بالفقه الحنيف، بالاضافة الى تلقيها التدريبات العسكرية على فنون الحرب وحمل السلاح وركوب الخيل، حتى تفوقت على اخوتها علما وسياسة، الامر الذى جعل والدها يختارها ولية للعهد لا سيما انه اكبر اولاده ركن الدين فيروز كان فاسدا ومنشغلا بالملذات واللهو، وكان معروفا بالغلظة والتشدد ومكروها من اغلبيه الشعب .. وقد تسببت تسمية رضية ولية للعهد فى غضب شديد داخل اروقة القصر واسرة شمس الدين، خصوصا ان الابناء لم يكونوا من ام واحدة، مما ساهم فى تعقد الامور وازدياد حدة الغضب التى ساهم فيها مؤامرات الامهات من داخل جناح الحريم، الامر الذى تسبب فى مقتل معز الدين شقيق رضية، ومحاولة اغتيالها على يد ركن الدين فيروز لارهابها ..
وسط هذا المؤامرات والاحداث الدائرة فى قصر دلهى عام 633 توفى شمس الدين ايلتوميتش سلطان دلهى بعد حكم دام 26 عاما بعدما سمى رضية ولية للعهد، الامر الذى لم يلاقى القبول كما ذكرنا من قبل من حاشية القصر والامراء الذين انحازوا لركن الدين وبايعوه وتولى السلطة، وابتدأ حكمه بقتل اخو رضية معز الدين الذى حاول الانقلاب عليه مما تسبب فى مقتله كما يذكر ابن بطوطة ” ولما بويع ر كن الدين افتتح امره بالتعدى على اخيه معز الدين فتله وكانت رضية شقيقته فأنكرت عليه ذلك فحاول قتلها ” .. ولم تسكت رضية على هذا الامر، خصوصا بعدما عرفت نية ركن الدين فى التخلص منها و اسكاتها للابد فلجأت الى الشعب، ولجأت الى استخدام المنهج الذى وضعه والدها لانصاف المظلومين من الرعية فانتظرت حتى صلاة الجمعة وخروج ركن الدين الى المسجد للصلاة، وصعدت الى سطح القصر بثياب ملونة ليعرف الناس انها صاحبة مظلمة، واخذت تخطب فى الناس وتذكرهم بمآثر ابيها واحسانه الى شعبه، وما فعله ركن الدين بها وبقتله لمعز الدين والاستيلاء على السلطة وقالت لهم ان ركن الدين قتل اخى معز الدين ويريد ايضا قتلى ” ..
حركت كلمات رضية الغضب فى نفوص الشعب، ومست نوازع العدل فى وجدانهم مما ادى الى تحركهم السريع نحو المسجد الذى كان يصلى فيه ركن الدين صلاة الجمعة، وامسكوا به من وسط امراءه وحاشيته وقادوه الى رضية، وسألوها ماذا تريد ان تفعل به، فقالت القاتل يقتل .,.وقتل ركن الدين فيروز وانتقمت رضية لاخيها معز الدين، واتفق الامراء على تولية رضية الملك ، يقول ابن بطوطة ” ولم قتل ركن الين اجتمعت العساكر على تولية اخته رضية الملك ، فولوها ، واستقلت بالحكم اربع سنين ” خصوصا ان ناصر الدين اخيها الثالث كان صغيرا ..
ارتقت رضية عرش دلهى عام 624 واعلنت ولائها للخليفة العباسى المستنصر بالله، واختارت لنفسها لقبين الاول ( رضية الدنيا والدين )، واللقب الثانى هو ( بلقيس جاهان ) باعتبار ان بلقيس هو الاسم العربى لملكة سبأ وجاهان هو لقب النبالة، وسكت على النقود النقوش التى تظهر ولائها لخليفة بغداد ” فى عهد المستنصر بالله امير المؤمنين \ السلطانة الاعظم جلالة الدنيا والدين \ الملكة ايلتوميتش ابنه السلطان \ نصيرة امير المؤمنين ”
وكان اول ما فعلته رضية بعد توليها الحكم كما يحكى ابن بطوطة هو رفع الحجاب عن وجهها، وقد حكمت حكما مطلقا خلال 4 سنوات، وكانت تمتطى الحصان على طريقة الرجال ومسلحة بقوس وجبة ومحاطة بحاشيتها .. ويقال فى بعض المصادر الاخرى انها قصت شعرها على طريقة الرجال ولبست لبسهم، وكانت تتمشى فى الاسواق بلباس الرجال وتجلس بين الناس وتسمع شكاويهم .. وقد وفت السلطانة بكل مهامها السياسية تجاه الشعب الذى احبها وبادلها الوفاء .,, ولكن ..
كانت نهاية السلطانة رضية مأساوية وغريبة للغاية، وبأيدى نفس الشعب الذى رفعها الى السلطة واحبها عندما خانت تقاليدهم الاخلاقية وانتهكت اعرافهم ..
لم تكن السلطانة رضية متزوجة وكانت على علاقة بأحد مسئولى الاسطبلات، وهو العبد الحبشى جمال الدين ياقوت امير الخيول، وبدأ الناس فى الارتياب بالعلاقة بينهم لسرعة ترقية جمال الدين لدرجة انها سمته امير الامراء .. وبدأ الامراء المحيطين بها فى التجسس عليها لمعرفة مآل هذه العلاقة بين السلطانة وامير الخيول الحبشى، بعدما لاحظ الجميع استئناس رضية بجمال الدين وتساهلها معه، لدرجة انها تركته ذات مرة كما رأى من يتجسس عليها يرفعها من تحت ابطيها لتركب الفرس ، فاستغل الامراء المناوئون لها هذه الفرصة، ونشروا فى المدينة ان السلطانة انتهكت حرمة الاخلاق والدين، وسمحت لعبد بان يلمسها ويرفعها من تحت ابطيها لتركب الفرس ، وتحالفت السلطة الدينية مع الامراء ضدها ويقول ابن بطوطة ” واتفق الناس على خلعها وتزويجها ، فخلعت وزوجت من بعض اقاربها ” ..
تم خلع رضية من على عرش دلهى وتزويجها من احد اقاربها، وتولية اخيها الاصغر ناصر الدين عرش دلهى ، ولكن رضية لم تكن راضية عما حدث من عزلها عن العرش، واتفقت هى وزوجها وبعض المماليك ممن كانوا يدينون بالولاء لها على الخروج على ناصر الدين، واستعادة الحكم وخرج ناصر الدين بجيشه لملاقاتها فوقعت الهزيمة بجيش رضية، وقتل زوجها وهربت ..
لكن اثناء هروبها ارهقها الجوع والتعب بعد مدة، واتجهت الى فلاح كان مشغولا بحراثة ارضه فأعطاها قطعة من الخبز فأكلت ثم غلبها النوم ، وكانت رضية تلبس ثياب الرجال، وعندما نامت راقبها الفلاح ووجد تحت ثيابها قميصا مطرزا بالذهب واللآلئ ووجد انها امرأة، فقتلها وسلب ثيابها وطرد حصانها ودفنها فى الحقل الذى يملكه، ثم اخذ جزءا من ثيابها المطرزة وذهب الى السوق ليبيعه، ولكن التجار شكوا فى امره وقادوه الى الشرطة، حيث اعترف بجريمته وارشد الحراس الى المكان الذى دفنها فيها، فرفعوا الجثة وغسلوها وكفنوها، ووضعوها فى المكان نفسه، وبنوا عليه مصلى جنائزى ..
وعندما مر ابن بطوطة فى القرن الرابع عشر كان الشعب قد جعل منها قديسة يزار قبرها الذى يقع على ضفاف نهر كبير يسمى نهر الجون على مسافة قصيرة من دلهى من قبل الحجاج، وينظر اليه كمكان مقدس .

https://twitter.com/zoooska

No comments:

Post a Comment