Sunday, July 22, 2018

حاكمية الله وسلطان الفقيه - الجزء الثانى ( بين الإمامة وولاية الفقيه ) - الدولة الصفوية الايرانية

اخذت فكرة ( ولاية الفقيه ) تحتل حيزا من افكار الفقهاء الشيعة على الرغم من ان كثيرا منهم انكر الولاية العامة بالمعنى الذى تقدم ذكره ، وقالوا ان الولاية خاصة بالنبى والائمة المعصومين ولا تنتقل فى عموميتها الى الفقيه الجامع للشرائط وأن " ولاية الفقيه "هى ولاية جزئية محدودة .

لقد اريد لفكرة ولاية الفقيه ان تتحول الى مفهوم متكامل فى صيغتها الاخيرة الراهنة ، بحيث يتم تجاوز الفصل الذى كان قائما بين الولاية الدينية والولاية السياسية للفقيه ، وهو فصل اجازه اغلب الفقهاء طوال القرون الاربعة الاولى من عصر الغيبة ، وذلك أن " ولاية الفقيه " لم يكن لها انذاك أثر لدى الفقهاء المؤسسين الكبار فى المراكز العلمية الشيعية العريقة فى العراق ، بحيث لم يخرج التفكير الفقهى فيها ( * عن الرأى المشهور عند فقهاء تلك الحقبة التالية لسنة الغيبة الكبرى والذى ذهب الى عدم مشروعية العمل لإقامة حكم اسلامى على مذهب اهل البيت ) ، وإبطال السيف او الجهاد حتى يظهر الإمام المهدى ويأمر بذلك ، وهذا ما يفسر انتشار نظرية الفصل ما بين التشيع الفقهى والتشيع السياسى فى الابحاث الفقهية الشيعية الكلاسيكية فى عصر الغيبة ، وبالتالى إرجاء قيام الدولة الاسلامية على المذهب الشيعى الاثنى عشرى وتعطيل هذا الهدف الى ان ياذن الله بطهور الإمام ( المهدى ) الذى لا يجوز شرعا حمل السيف والجهاد والخروج للإمامة والحكم الا تحت رايته المباشرة .

ولم يجسر اى فقيه طول تلك الفترة على ادعاء " نيابة الامام " الى ان قامت الدولة الصفوية الايرانية 905/1051هـ فى ظل ظروف مشابهة لقيام كثير من سلطنات التغلب والامر الواقع التى نشأت بعد ضعف وتفكك الدولة العباسية .

قامت الدولة الصفوية فى مناخ الصراع العثمانى - الايرانى والذى استخدمت فيه التعبئة المذهبية الى اقصى حد ، فقد جرى تنصيب الشاه اسماعيل وهو لما يزل فى سن الثالثة عشر ، وكانت وراءه حركة صوفية قوية ( * وهى الطريقة الصفوية التى اسسها الشيخ صفى الدين ) اضفت نوع من القداسة الالهية على ادعاءاتها ، فقد قيل ان الامام المهدى ألبس الشاه اسماعيل - مؤسس الدولة الصفوية - وهو فى طريقه الى مكة التاج الاحمر ، وعلق به السيف قائلا : " اذهب فقد اذنت لك " ، مما يوهم بان المهدى منح الشاه صفة ( ولاية خاصة ) كتلك التى منحها لسفرائه الاربعة ، حدث ذك على الرغم من تكذيب الامام المهدى المسبق على لسان سفيره الاخير ( السمرى ) لأى ادعاء يمكن ان ينشأ بلقائه ومقابلته ، وذلك لقطع الطريق على المدعين فى فترة غيبته الكبرى ، لقد كان الشاه اسماعيل الصفوى يؤكد لمريديه انه ليس بينه وبين المهدى فاصل ، وان " ولايته صادرة عن ختم النبوة وكمال الولاية " * الصلة بين التشيع والتصوف / كامل مصطفى *  

نجح الشاه اسماعيل فى توحيد البلاد الايرانية مستفيدا من حالة الضعف والفوضى التى سادت تلك المنطقه فى اعقاب الحقبة الايلخانية والحقبة التيمورية ، حيث تصارعت القبائل التركمانية فى ما بينها وحولت البلاد الى مقاطعات وامارات ، وقد استطاع الشاه اسماعيل ان يمد سلطان دولته الى بغداد والاماكن المقدسة فى العراق ، ولكنه ما لبث ان توفى وله من العمر ثمانى وثلاثون سنة ليتسلم الملك ابنه ( طهماسب ) الذى تابع خطوات بناء الدولة عسكريا واداريا ودينيا .

ان موقف العلماء من الحكم الصفوى مازال يشوبه الغموض ، وان كان صحيحا ان بعض العلماء الشيعة قد أيد هذا الحكم ، فإن السبب واضح ، وهو إقامة بنية تحتية لدولة إسلامية شيعية ، فقد ادعى الشاه اسماعيل ان نسبه يصل الى الإمام موسى الكاظم ، وقد استفاد الحكام الصفويون بعد من هذا الادعاء الذى يقوم على حجية تحدرهم من سلالة اهل البيت ، ولكن الشئ المؤكد هو ان عدد كبيرا من العلماء الشيعة لم يتخذ موقفا مؤيدا من اعلان الشاه اسماعيل نفسه ( نائبا للإمام ) والشئ الثابت هو ان الصفويين أسسوا لحكم تقوم شرعيته على " تحكيم المذهب الشيعى ونشره على صعيد واسع فى ايران التى كانت لا تزال تغلب عليها الاكثرية السكانية السنية " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

لقد ادت السياسة الصفوية الى تسريع عملية نشر التشيع فى ايران ، وكما يقول وجيه كوثرانى ، ان هذه العملية تمت " عبر جملة من الاجراءات والمظاهر التى استمالت الناس ترغيبا أو ترهيبا أو احتواء ، ومن ذلك على سبيل المثال : مظاهر التقديس التى احيطت بها المقامات والمزارات العائدة الى الأئمة ، والمظاهر الطقسية المؤثرة للشعائر الحسينية فى عاشوراء ، المسيرة التى قام بها الشاه عباس الاول سيرا على الاقدام من اصفهان الى مشهد ( مزار الامام الرضا ) ، هذا بالاضافة الى الاجراءات القمعية والقسرية والمعنوية والمادية والجسدية التى كانت تتخذ حيال السنة لاجبارهم على اعتناق التشيع "  * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

وكان طبيعيا ان تسعى الدولة الصفوية الى توظيف عدد من الفقهاء الشيعة لإتمام هذه العملية ، وان تسعى بشكل حثيث الى استقدامهم من العراق والبحرين وبلاد الشام ، فقد عانت من نقص فى الثقافة الفقهية نتيجة سيادة الفكر الصوفى ونقص اعداد الفقهاء الإيرانيين الذين يحتاجهم جهاز الدعوة فى الدولة الصفوية ، وهذا ما وعاه الشاه اسماعيل ومن بعده ابنه طهماسب الذى استدعى ( الشيخ على بن عبد العال الكركى ) وطلب اليه ان يوطد له دعائم السياسة والملك ويجيز له الجلوس على كرسى العرش بإسم الولاية العامة التى هى من صلاحيات الفقيه ، ولا زالت الكتب التاريخية تحتفظ بالنصوص الواردة فى إجازة الكركى للشاه .

وقد نجح الشيخ الكركى فى تشكيل مؤسسة دينية رسمية مختصة ، تبث التشيع انطلاقا من فكرة الولاية العامة للفقيه ، وبذلك اصبح الشيخ الكركى ( مطلق اليد فى شؤون الدولة الشيعية الجديدة ، الاقتصادية والدينية ، بوصفه نائبا عاما عن المهدى ، وبوصف الشاه نفسه نائبا لهذا الفقيه ) * الصلة بين التشيع والتصوف / كامل مصطفى *  .... وبهذا المعنى اعتبر الشاه الصفوى الشيخ الكركى ( صاحب الدولة الحقيقي ونائب الامام الغائب ، وان على الجميع امتثال اوامره .. فمعزول الشيخ لا يستخدم ، ومنصوبه لا يعزل " * الفكر السلفى عند الشيعة الاثنى عشرية / الجابرى *

ولم يسبق الشيخ الكركى فى طرح مسألة ولاية الفقيه سوى الفقيه ( محمد بن بابويه القمى ) وذلك فى مرحلة الحكم البويهى على العراق الذى كان يتبنى التشيع ، فقد دعا ( ركن الدولة البويهى ) الشيخ بن بابويه ، ليكون مرشدا له فى سياساته وادارته وعلاقته مع الرعية ، وهو ما يعتبر بداية غامضة لفكرة ( ولاية الفقيه ) ، لكن الامر مع الشيخ الكركى مختلف ، فهو يلقب من قبل خصومه بمخترع الشيعة ، ومن قبل انصاره بالمحقق الثانى ، وذلك لدوره المهم فى بناء مؤسسة يدينية تولاها بنفسه ، بالاضافة الى سلسلة من الاجتهادات فى الاحكام التى صدرت عن هذه المؤسسة مثل تجويز السجود على التربة المشوبة بالنار ، ومنع تقليد الميت ، وتجويز السجود للعبد ، واحياء العادات البويهية - الايلخانية مثل تطوير مجالس التعزية فى عاشوراء ، واضافة الشهادة الثالثة ، وحى على خير العمل .. الخ .

لقد اثارت ( ولاية الفقيه ) التى ادعاها الكركى جدلا بين علماء الشيعة ادى الى انقسامهم فى حينه الى فريقين متنازعين ، فقد انتقد فريق من فقهاء النجف ، وهم زملاء الشيخ الكركى ، تأييده للصفويين واعتبار نفسه ( نائبا للإمام ) ، وكان ابرز من وجه اليه النقد فى مناظرات مفتوحة آنذاك الفقيه الذى يوازيه فى العلم والمكانة الشيخ ( ابراهيم القطيفى ) الذى خالفه بعدة مسائل بالإضافة الى قضية ولاية الفقيه ، مثل الخراج ومسألة صلاة الجمعة وفى قضية تجويزه التشهير بالخلفاء الثلاثة الراشدين او لعنهم * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

ويمكن القول من خلال السياق التاريخى الذى نشأت فيه فكرة ولاية الفقيه انها نتاج لشراكة بين الدولة والفقيه ، فمع الدولة البويهية او الصفوية فيما بعد ، كانت الحاجة ماسة لحل اشكالية السلطة فى عصر الغيبة ، ولم يكن من مخرج لهذه الاشكالية سوى بهذه الشراكة بين الفقيه والدولة المتغلبة الناشئة فى ذلك الحين ، وهذه الشراكة ما كان لها ان تنجح الا بعملية ( تكييف ) للفقه الشيعى بما يتناسب والدولة الصاعدة التى ينطبق عليها وعلى ولاتها صفة ( حكام الجور ) حسب التوصيف الشيعى .

ويمكننا ان نعتبر ان اطروحات الشيخ الكركى " استمرار للمدرسة السجالية الشيعية المسيسة التى برزت فى ظل الملوك الإيلخانيين فى العراق وإيران ، كما يمكن اعتباره مؤسسا للمدرسة الصفوية الشيعية التى نقلت حالة التشيع فى ايران من بعدها الصوفى الى بعدها الفقهى المحدد المتوافق مع تحول الدعوة الى دولة والطريقة الى سلطان " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى * 

ومع محمد الباقر الملقب بـ " المقدسى " الذى برز فى اواخر العهد الصفوى بدأت تكتمل المدرسة الصفوية الشيعية ، وكتابه ( بحار الانوار ) يحمل العديد من آثار الفكر الشيعى المغالى بالإضافة الى نزعة فارسية واضحة ، وذلك ما يورده على شريعتى فى تمييزه بين التشيع الصفوى والتشيع العلوى ، من تحليل لروايات اوردها المجلسى تنم عن قمة الدمج بين التعصب المذهبى الصفوى والنزعة القومية الايرانية مثل رواية زواج الحسين من ابنة يزدجرد ، والتى تحمل فى مغزاها اتجاها لجعل اصل الائمة مشتركا مع الفرس * فاضل رسول / هكذا تكلم على شريعتى *

وفى الحقيقة فقد سبق الشيخ ابراهيم القطيفى ، وهو احد كبار علماء النجف الأشرف ، فقهاء كثر عارضوا فكرة ( ولاية الفقيه ) التى كانت تطرح بشكل خجول ، ولعل الفقيه المحقق ( ابن المطهر الحلى ) وهو معاصر لابن تيمية ، اول من عارض ولاية الفقيه ، وتابعه علماء كثر ابرزهم العلامة الشيخ ( مرتضى الانصارى ) صاحب كتاب المكاسب ، الذى يناقش ايضا هذه المسألة ويعرض الدلائل التى تنفى ولاية الفقيه بشكل واضح .

إن أغلب الفقهاء الذين ناقشوا هذه المسألة يأخذون على فكرة ولاية الفقيه العامة مآخذ عديدة من أبرزها :

-  أن الاصل عدم ولاية احد على احد ، وانه اذا قام بالدليل القاطع على ولاية المعصوم وانه " اولى بالمؤمنين من انفسهم " فانه لا دليل على ولاية سواه ، إلا فى القضاء والإفتاء وبعض الامور الصغيرة ، اى لا دليل على ولايه الفقيه المطلقة .

- إن الاخبار الثابتة تبين اختصاص المناصب بالإمام ، خاصة ما يتعلق بالتعزيرات والحدود والحكومات ، وليس للفقيه شئ من ذلك الا ما اعطاه اياه المعصوم ، هو لم يعط الولاية العامة . 

- انه لو كانت الولاية عامة ومطلقة لوجب تساوى الإمام المعصوم مع سواه ، لأن الصلاحيات هى نفسها للإثنين ، فالولاية العامة تؤدى الى تعميم الصلاحيات ذاتها على الفقهاء ، هذا بديهى البطلان ، فلا ولاية للفقيه من الأساس .

- ان قيام حكومة الفقيه يؤدى الى احد امرين : اذا ظلم الفقيه حل الخراب فى الارض وفسدت حكومته ، واذا عدل استقامت الامور بحيث يمكن الاستغناء عن الامام صاحب الزمان ، وبما ان هاتين الفرضيتين باطلتان شرعيا ولا يمكن الايمان بهما ، فلا يبقى الا رفض ولاية الفقيه من جذورها .

- اخبار كثيرة تفيد بأن كل راية تظهر قبل الإمام صاحب الزمان هى راية ضلالة ، ويستشهد اصحاب هذا الرأى بروايات عديدة منها رواية أبى بصير عن الإمام الصادق انه قال : " كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها ظاغوت يعبد من دون الله عز وجل " .. كنا ان هناك اخبارا تؤكد على لزوم السكون والهدوء ما دام الإمام غائبا ، ومنها رواية سدير الصيرفى عن الامام الصادق انه قال : " يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من احلاسه ، واسكن ما سكن الليل والنهار ، فاذا بلغك أن السفيانى قد خرج ، فارحل الينا ولو على رجلك "

وقد استمر عدد كبير من فقهاء الشيعة على معارضتهم لفكرة ولاية الفقيه العامة الى ان تحولت راهنا مع الإمام الخومينى من مجرد فكرة الى خطاب تم من خلاله توسيع صلاحيات الفقيه لتشمل القيادة السياسية وامور الحكم ، وبالرغم من التبنى الرسمى الإيرانى لم يحظ الخطاب ( الولايتى ) بالإجماع فى الوسط الشيعى ، فلا زالت المواقف المخالفة تحتل مكانها البارز .





Wednesday, July 18, 2018

حاكمية الله وسلطان الفقيه - الجزء الاول ( بين الإمامة وولاية الفقيه )

ينطلق الشيعة الإمامية من أن خلافة النبى محمد قد تسلسلت فى الأئمة المعصومين الاثنى عشر وهم على التوالى :

1 - على بن ابى طالب ، بعد النبى وذلك بنص من النبى تشهد له آيات فى القرآن الكريم بحسب التفسير والتأويل الشيعى 
2- الامام الحسن بن على 
3- الامام الحسين بن على 
4- الامام على بن الحسين 
5- الامام محمد بن على الباقر
6- الامام جعفر بن محمد الصادق
7- الامام موسى بن جعفر الكاظم 
8- الامام على بن موسى الرضا
9- الامام محمد بن على الجواد
10- الامام على بن محمد الهادى 
11- الامام الحسن بن على العسكرى
12- الامام محمد بن الحسن المهدى المنتظر 

وهؤلاء الائمة هم خلفاء النبى فى الاعتقاد الشيعى ، فهم يمثلون " استمرار السلطة الاسلامية الشرعية ، وإن كانوا بإستثناء امير المؤمنين الامام على بن ابى طالب لم يتمكنوا من تسلم السلطة الفعلية العامة التى كان يتولاها الخلفاء المتسلطون من الامويين والعباسيين وغيرهم من الحكام المسلمين على مدى التاريخ " *الشيخ محمد مهدى شمس الدين ( فى الاجتماع السياسى والاسلامى )
; وقد مارس هؤلاء الائمة ، منذ تخلى الامام الحسن عن السلطة الرسمية المعلنة فى سنة 40 هجرية سلطة فعلية سرية غير معلنة رسميا على كل الملتزمين بخط التشيع ، بحيث ان حياة المسلمين الشيعة الدينية - السياسية وحياتهم العادية المدنية ، كانت تقوم على اساس فقه ائمة آل البيت 

اما الخلفاء والحكام الفعليون فقد نظر اليهم الشيعة على انهم يتولون منصبا ليس لهم ، ويمارسون صلاحيات لا يتمتعون بها ، فلم يفوضها احد اليهم ، لذا فهم الظالمون وهم ولاة الجور ، ولما كانت سلطة هؤلاء الحكام غير شرعية فقد حرم الائمة معاونتهم فى ظلمهم والعمل معهم ودعم سلطانهم فضلا عن الاعتراف بشرعية سلطانهم ،ولكنهم اباحوا العمل والتعامل معهم لحفظ النظام العام ووحدة الامة ودفع الضرر عن المؤمنين واقامة العدل فى الرعية ، هى هنا اباحة مشروطة ومقيدة وجزئية وليست عامة ، وشرطها الاساسى ان لا تؤدى الى الاعتراف بشرعية ولاة الجور واعانتهم على الظلم ، اما فى حالة ( الضرورة للخوف على النفس او غير ذلك من موارد الضرورة ) فيجوز اللجوء الى ( التقية ) التى يجب ان تمارس فى الحالات غير المشروعة التى تقضى بها الضرورة ، اما بالنسبة للحالات المشروعة فلا معنى للتقية فيها 

يتضح مما سبق ان الموقف الفقهى الإمامى من ولاة الجور يتشابه مع موقف الفقه السنى من الحكام غير الشرعيين الذين لم يصلوا الى السلطة عن طريق الشورى ، وانما استولوا عليها عن طريق القوة والغلبة ..

لكن المشكلة التى تحتاج الى حل على المستوى الفقهى الشيعى هى الموقف من ( الحكم الاسلامى ) فى عصر ( الغيبة الكبرى ) للإمام الثانى عشر ، ومن المعروف ان ( الغيبة الصغرى ) بدأت عام 260 هجرى ، وهى تمثل الفترة التى بقى فيها الإمام محمد بن الحسن المهدى المنتظر مختفيا عن الانظار ، هى فترة استمرت 65 عام حيث كان الاتصال بين الشيعة والامام المختفى تتم بواسطة ( السفراء ) وهم اربعة :
1- عثمان بن سعيد العمرى 
2- محمد بن عثمان العمرى 
3- الحسين بن روح النوبتخى 
4- على بن محمد السمرى 

وقد امتدت الغيبة الصغرى الصغرى الى سنة 329 هـ وانتهت بوفاة السفير الرابع ، وبوفاته بدأت الغيبة الكبرى ، وقد تم اعلان هذه الغيبة الكبرى فى آخر رسالة تلقاها السفير الرابع من الإمام وهى :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، يا على بن محمد السمرى ، اعظم الله اجر اخوانك فيك ، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع امرك ولا توص الى احد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور لأحد الا بعد ان يأذن الله تعالى ،وسيأتى من يدعى المشاهدة قبل خروج السفيانى والصيحة ،فهو مغتر كذاب "

وقد توفى السمرى خلال ستة ايام من تاريخ الرسالة ، اذن كان السفير يقابل الامام شخصيا ويسلمه الكتب والحوائج والاموال ويتسلم منه الاجوبة والتعليمات اعامة والخاصة ، وقد انقطعت الولاية التى تولاها السفراء مع انقطاع توقيع الإمام الى آخر نوابه السمرى وبإنتهاء فترة الغيبة الصغرى وبدء فترة الغيبة الكبرى من دون ان يوصى السمرى بالنيابة الى احد *آية الله الشهيد حسن الشيرازى  ( كلمة الإمام المهدى )


إن فكرة عودة المهدى ( الرجعة ) وظهور قائد فى آخر الزمان يملأ الارض عدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا هى فكرة محورية عن الشيعة ، وهناك احاديث روتها كتب الصحاح عن النبى محمد تفيد بظهور " مهدى " يأتى ليقيم العدل ، لكن الفكرة عند الشيعة تستند الى روايات الأئمة ايضا وهى تفيد بأن المهدى المنتظر هو بالتحديد ابن الإمام الحسن العسكرى ، وانه صاحب الحق الوحيد فى ملئ منصب الإمامة ، وطالما هو فى غيبته الكبرى ، لا يمكن اشغال هذا المنصب باى شخص آخر ، فغيبة الإمام لا تلغى الحق الشرعى والإلهى فى الولاية ، ووفق هذا المنطق يستحيل عمليا تعيين خليفة اخر غير معصوم مع وجود الامام المعصوم حيا ولكن فى غيبته الكبرى ، فمركز الامامة او الخلافة ليس شاغرا بوجود الامام الثانى عشر فى غيبته ، وهو لم ينص على نائب او سفير له ، ولم يجرؤ احد على ادعاء ذلك اعتمادا على حديثه ( فمن ادعى رؤيتى فهو مغتر كذاب )

لذلك تنتفى شرعية قيام دولة اسلامية فى عصر الغيبة ، وهذا هو الرأى الفقهى الشيعى الذى ذهب اليه اغلب الفقهاء قديما وحديثا ، خاصة وانهم يشترطون فى الحاكم ( الإمام ) ان يكون من آل البيت ، معصوما من الزلل والخطأ فى عمله وعلمه ، وعليه فإن غيبة الإمام تسحب الحق من أى من كان ان يدعى الحكم بإسم الدين او ان يدعى الشرعية الدينية

لا شك فى أن هناك إشكالية واجهت الفقه الشيعى واجهت الفقه الشيعى فى هذا المجال ، فالإمام المعصوم حى موجود ،"وهو إمام الزمان ، والفراغ فى السلطة الاسلامية ليس ناشئا عن عدم وجود الامام ،وانما هو ناشئ عن غيابه الذى تسببت به اوضاع الامة نفسها بسيطرة حكام الجور عليها " *الشيخ محمد مهدى شمس الدين ( فى الاجتماع السياسى والاسلامى )

ويناقش جمهور الفقهاء الشيعة مبدأ الشورى " ولا يسلمون بكونه اساسا صالحا لإعطاء شرعية للحاكم المنتخب او المعين على أساسه " *الشيخ محمد مهدى شمس الدين ( فى الاجتماع السياسى والاسلامى ) - والحاكم لا يمكن ان يكون اصيلا مع وجود الامام المعصوم الغائب الذى هو الحاكم الاصيل بمقتضى عقيدة الشيعة الإمامية فى مسألة الإمامة

إن اشكالية السلطة هذه بلورت اتجاهبن عند فقهاء الشيعة :

1- الاتجاه الاول يذهب اصحابه الى عدم مشروعية إقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة الكبرى ، لان اقامة الحكم وتعيين الحاكم ، يقتضيان ممارسة الولاية العامة والتصرف فى اموال المسلمين وانفسهم بمقتضى هذه الولاية العامة ـ وعند اصحاب هذا الاتجاه ، الولاية هى فى الاصل لله وحده ، ولا ولاية لأحد على أحد ، والمؤكد خروجه على هذا الاصل هو ولاية التصرف العامة على المسلمين للنبى محمد وللإمام المعصوم دون من عداهما ، وما عدا ذلك فيبقى مشمولا للاصل الاولى القاضى بعدم ولاية احد على احد ، اما الفقيه الجامع للشرائط فقد دل الدليل على ثبوت بعض الولابات الخاصة المحدودة والمحددة له ، مثل اخذ الاحكام منه على مستوى الفتوى ، وفى القضاء لفصل الخصومات بين المتنازعين وبعض القضايا الاخرى ، هى ما اصطلح عليها فقهيا بـ ( الامور الحسبية ) مثل الولاية على الاوقاف التى لا ولى عليها ، والولاية على الايتام وسائر القاصرين الذين لا ولى لهم ، ونتيجة هذا الموقف الفقهى هى عدم مشروعية السعى الى اقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة

2 - الاتجاه الثانى الذى يذهب اصحابه الى مشروعية اقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة ، ويستند اصحاب هذا الرأى الى ما اصطلح عليه بـ ( ولاية الفقيه ) والدليل عليه عندهم أن الإمام المعصوم قد نصب الفقيه الجامع للشرائط فى عصر الغيبة الكبرى ، وليا عاما ، ولا ية تصرف على المسلمين ، ويرى هذا الاتجاه انه ثبت للفقيه بمقتضى هذه الولاية جميع ما ثبت للإمام المعصوم الولاية عليه ، وهذا الفقيه الجامع للشرائط هو الحاكم الاسلامى المعين بـ ( النصب العام ) حاكما على المسلمين ، وهذا هو اساس مصطلح ( ولاية الفقيه ) ونتيجة لهذا الموقف الفقهى فعلى المسلمين إقامة حكم اسلامى فى عصر الغيبة على اساس ولاية الفقيه ، الذى يعطى الشرعية لكل التصرفات التى يتوقف عليها انشاء الدولة الاسلامية واستمرارها ..