اخذت فكرة ( ولاية الفقيه ) تحتل حيزا من افكار الفقهاء الشيعة على الرغم من ان كثيرا منهم انكر الولاية العامة بالمعنى الذى تقدم ذكره ، وقالوا ان الولاية خاصة بالنبى والائمة المعصومين ولا تنتقل فى عموميتها الى الفقيه الجامع للشرائط وأن " ولاية الفقيه "هى ولاية جزئية محدودة .
لقد اريد لفكرة ولاية الفقيه ان تتحول الى مفهوم متكامل فى صيغتها الاخيرة الراهنة ، بحيث يتم تجاوز الفصل الذى كان قائما بين الولاية الدينية والولاية السياسية للفقيه ، وهو فصل اجازه اغلب الفقهاء طوال القرون الاربعة الاولى من عصر الغيبة ، وذلك أن " ولاية الفقيه " لم يكن لها انذاك أثر لدى الفقهاء المؤسسين الكبار فى المراكز العلمية الشيعية العريقة فى العراق ، بحيث لم يخرج التفكير الفقهى فيها ( * عن الرأى المشهور عند فقهاء تلك الحقبة التالية لسنة الغيبة الكبرى والذى ذهب الى عدم مشروعية العمل لإقامة حكم اسلامى على مذهب اهل البيت ) ، وإبطال السيف او الجهاد حتى يظهر الإمام المهدى ويأمر بذلك ، وهذا ما يفسر انتشار نظرية الفصل ما بين التشيع الفقهى والتشيع السياسى فى الابحاث الفقهية الشيعية الكلاسيكية فى عصر الغيبة ، وبالتالى إرجاء قيام الدولة الاسلامية على المذهب الشيعى الاثنى عشرى وتعطيل هذا الهدف الى ان ياذن الله بطهور الإمام ( المهدى ) الذى لا يجوز شرعا حمل السيف والجهاد والخروج للإمامة والحكم الا تحت رايته المباشرة .
ولم يجسر اى فقيه طول تلك الفترة على ادعاء " نيابة الامام " الى ان قامت الدولة الصفوية الايرانية 905/1051هـ فى ظل ظروف مشابهة لقيام كثير من سلطنات التغلب والامر الواقع التى نشأت بعد ضعف وتفكك الدولة العباسية .
قامت الدولة الصفوية فى مناخ الصراع العثمانى - الايرانى والذى استخدمت فيه التعبئة المذهبية الى اقصى حد ، فقد جرى تنصيب الشاه اسماعيل وهو لما يزل فى سن الثالثة عشر ، وكانت وراءه حركة صوفية قوية ( * وهى الطريقة الصفوية التى اسسها الشيخ صفى الدين ) اضفت نوع من القداسة الالهية على ادعاءاتها ، فقد قيل ان الامام المهدى ألبس الشاه اسماعيل - مؤسس الدولة الصفوية - وهو فى طريقه الى مكة التاج الاحمر ، وعلق به السيف قائلا : " اذهب فقد اذنت لك " ، مما يوهم بان المهدى منح الشاه صفة ( ولاية خاصة ) كتلك التى منحها لسفرائه الاربعة ، حدث ذك على الرغم من تكذيب الامام المهدى المسبق على لسان سفيره الاخير ( السمرى ) لأى ادعاء يمكن ان ينشأ بلقائه ومقابلته ، وذلك لقطع الطريق على المدعين فى فترة غيبته الكبرى ، لقد كان الشاه اسماعيل الصفوى يؤكد لمريديه انه ليس بينه وبين المهدى فاصل ، وان " ولايته صادرة عن ختم النبوة وكمال الولاية " * الصلة بين التشيع والتصوف / كامل مصطفى *
نجح الشاه اسماعيل فى توحيد البلاد الايرانية مستفيدا من حالة الضعف والفوضى التى سادت تلك المنطقه فى اعقاب الحقبة الايلخانية والحقبة التيمورية ، حيث تصارعت القبائل التركمانية فى ما بينها وحولت البلاد الى مقاطعات وامارات ، وقد استطاع الشاه اسماعيل ان يمد سلطان دولته الى بغداد والاماكن المقدسة فى العراق ، ولكنه ما لبث ان توفى وله من العمر ثمانى وثلاثون سنة ليتسلم الملك ابنه ( طهماسب ) الذى تابع خطوات بناء الدولة عسكريا واداريا ودينيا .
ان موقف العلماء من الحكم الصفوى مازال يشوبه الغموض ، وان كان صحيحا ان بعض العلماء الشيعة قد أيد هذا الحكم ، فإن السبب واضح ، وهو إقامة بنية تحتية لدولة إسلامية شيعية ، فقد ادعى الشاه اسماعيل ان نسبه يصل الى الإمام موسى الكاظم ، وقد استفاد الحكام الصفويون بعد من هذا الادعاء الذى يقوم على حجية تحدرهم من سلالة اهل البيت ، ولكن الشئ المؤكد هو ان عدد كبيرا من العلماء الشيعة لم يتخذ موقفا مؤيدا من اعلان الشاه اسماعيل نفسه ( نائبا للإمام ) والشئ الثابت هو ان الصفويين أسسوا لحكم تقوم شرعيته على " تحكيم المذهب الشيعى ونشره على صعيد واسع فى ايران التى كانت لا تزال تغلب عليها الاكثرية السكانية السنية " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى *
لقد ادت السياسة الصفوية الى تسريع عملية نشر التشيع فى ايران ، وكما يقول وجيه كوثرانى ، ان هذه العملية تمت " عبر جملة من الاجراءات والمظاهر التى استمالت الناس ترغيبا أو ترهيبا أو احتواء ، ومن ذلك على سبيل المثال : مظاهر التقديس التى احيطت بها المقامات والمزارات العائدة الى الأئمة ، والمظاهر الطقسية المؤثرة للشعائر الحسينية فى عاشوراء ، المسيرة التى قام بها الشاه عباس الاول سيرا على الاقدام من اصفهان الى مشهد ( مزار الامام الرضا ) ، هذا بالاضافة الى الاجراءات القمعية والقسرية والمعنوية والمادية والجسدية التى كانت تتخذ حيال السنة لاجبارهم على اعتناق التشيع " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى *
وكان طبيعيا ان تسعى الدولة الصفوية الى توظيف عدد من الفقهاء الشيعة لإتمام هذه العملية ، وان تسعى بشكل حثيث الى استقدامهم من العراق والبحرين وبلاد الشام ، فقد عانت من نقص فى الثقافة الفقهية نتيجة سيادة الفكر الصوفى ونقص اعداد الفقهاء الإيرانيين الذين يحتاجهم جهاز الدعوة فى الدولة الصفوية ، وهذا ما وعاه الشاه اسماعيل ومن بعده ابنه طهماسب الذى استدعى ( الشيخ على بن عبد العال الكركى ) وطلب اليه ان يوطد له دعائم السياسة والملك ويجيز له الجلوس على كرسى العرش بإسم الولاية العامة التى هى من صلاحيات الفقيه ، ولا زالت الكتب التاريخية تحتفظ بالنصوص الواردة فى إجازة الكركى للشاه .
وقد نجح الشيخ الكركى فى تشكيل مؤسسة دينية رسمية مختصة ، تبث التشيع انطلاقا من فكرة الولاية العامة للفقيه ، وبذلك اصبح الشيخ الكركى ( مطلق اليد فى شؤون الدولة الشيعية الجديدة ، الاقتصادية والدينية ، بوصفه نائبا عاما عن المهدى ، وبوصف الشاه نفسه نائبا لهذا الفقيه ) * الصلة بين التشيع والتصوف / كامل مصطفى * .... وبهذا المعنى اعتبر الشاه الصفوى الشيخ الكركى ( صاحب الدولة الحقيقي ونائب الامام الغائب ، وان على الجميع امتثال اوامره .. فمعزول الشيخ لا يستخدم ، ومنصوبه لا يعزل " * الفكر السلفى عند الشيعة الاثنى عشرية / الجابرى *
ولم يسبق الشيخ الكركى فى طرح مسألة ولاية الفقيه سوى الفقيه ( محمد بن بابويه القمى ) وذلك فى مرحلة الحكم البويهى على العراق الذى كان يتبنى التشيع ، فقد دعا ( ركن الدولة البويهى ) الشيخ بن بابويه ، ليكون مرشدا له فى سياساته وادارته وعلاقته مع الرعية ، وهو ما يعتبر بداية غامضة لفكرة ( ولاية الفقيه ) ، لكن الامر مع الشيخ الكركى مختلف ، فهو يلقب من قبل خصومه بمخترع الشيعة ، ومن قبل انصاره بالمحقق الثانى ، وذلك لدوره المهم فى بناء مؤسسة يدينية تولاها بنفسه ، بالاضافة الى سلسلة من الاجتهادات فى الاحكام التى صدرت عن هذه المؤسسة مثل تجويز السجود على التربة المشوبة بالنار ، ومنع تقليد الميت ، وتجويز السجود للعبد ، واحياء العادات البويهية - الايلخانية مثل تطوير مجالس التعزية فى عاشوراء ، واضافة الشهادة الثالثة ، وحى على خير العمل .. الخ .
لقد اثارت ( ولاية الفقيه ) التى ادعاها الكركى جدلا بين علماء الشيعة ادى الى انقسامهم فى حينه الى فريقين متنازعين ، فقد انتقد فريق من فقهاء النجف ، وهم زملاء الشيخ الكركى ، تأييده للصفويين واعتبار نفسه ( نائبا للإمام ) ، وكان ابرز من وجه اليه النقد فى مناظرات مفتوحة آنذاك الفقيه الذى يوازيه فى العلم والمكانة الشيخ ( ابراهيم القطيفى ) الذى خالفه بعدة مسائل بالإضافة الى قضية ولاية الفقيه ، مثل الخراج ومسألة صلاة الجمعة وفى قضية تجويزه التشهير بالخلفاء الثلاثة الراشدين او لعنهم * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى *
ويمكن القول من خلال السياق التاريخى الذى نشأت فيه فكرة ولاية الفقيه انها نتاج لشراكة بين الدولة والفقيه ، فمع الدولة البويهية او الصفوية فيما بعد ، كانت الحاجة ماسة لحل اشكالية السلطة فى عصر الغيبة ، ولم يكن من مخرج لهذه الاشكالية سوى بهذه الشراكة بين الفقيه والدولة المتغلبة الناشئة فى ذلك الحين ، وهذه الشراكة ما كان لها ان تنجح الا بعملية ( تكييف ) للفقه الشيعى بما يتناسب والدولة الصاعدة التى ينطبق عليها وعلى ولاتها صفة ( حكام الجور ) حسب التوصيف الشيعى .
ويمكننا ان نعتبر ان اطروحات الشيخ الكركى " استمرار للمدرسة السجالية الشيعية المسيسة التى برزت فى ظل الملوك الإيلخانيين فى العراق وإيران ، كما يمكن اعتباره مؤسسا للمدرسة الصفوية الشيعية التى نقلت حالة التشيع فى ايران من بعدها الصوفى الى بعدها الفقهى المحدد المتوافق مع تحول الدعوة الى دولة والطريقة الى سلطان " * الفقيه والسلطان / وجيه كوثرانى *
ومع محمد الباقر الملقب بـ " المقدسى " الذى برز فى اواخر العهد الصفوى بدأت تكتمل المدرسة الصفوية الشيعية ، وكتابه ( بحار الانوار ) يحمل العديد من آثار الفكر الشيعى المغالى بالإضافة الى نزعة فارسية واضحة ، وذلك ما يورده على شريعتى فى تمييزه بين التشيع الصفوى والتشيع العلوى ، من تحليل لروايات اوردها المجلسى تنم عن قمة الدمج بين التعصب المذهبى الصفوى والنزعة القومية الايرانية مثل رواية زواج الحسين من ابنة يزدجرد ، والتى تحمل فى مغزاها اتجاها لجعل اصل الائمة مشتركا مع الفرس * فاضل رسول / هكذا تكلم على شريعتى *
وفى الحقيقة فقد سبق الشيخ ابراهيم القطيفى ، وهو احد كبار علماء النجف الأشرف ، فقهاء كثر عارضوا فكرة ( ولاية الفقيه ) التى كانت تطرح بشكل خجول ، ولعل الفقيه المحقق ( ابن المطهر الحلى ) وهو معاصر لابن تيمية ، اول من عارض ولاية الفقيه ، وتابعه علماء كثر ابرزهم العلامة الشيخ ( مرتضى الانصارى ) صاحب كتاب المكاسب ، الذى يناقش ايضا هذه المسألة ويعرض الدلائل التى تنفى ولاية الفقيه بشكل واضح .
إن أغلب الفقهاء الذين ناقشوا هذه المسألة يأخذون على فكرة ولاية الفقيه العامة مآخذ عديدة من أبرزها :
- أن الاصل عدم ولاية احد على احد ، وانه اذا قام بالدليل القاطع على ولاية المعصوم وانه " اولى بالمؤمنين من انفسهم " فانه لا دليل على ولاية سواه ، إلا فى القضاء والإفتاء وبعض الامور الصغيرة ، اى لا دليل على ولايه الفقيه المطلقة .
- إن الاخبار الثابتة تبين اختصاص المناصب بالإمام ، خاصة ما يتعلق بالتعزيرات والحدود والحكومات ، وليس للفقيه شئ من ذلك الا ما اعطاه اياه المعصوم ، هو لم يعط الولاية العامة .
- انه لو كانت الولاية عامة ومطلقة لوجب تساوى الإمام المعصوم مع سواه ، لأن الصلاحيات هى نفسها للإثنين ، فالولاية العامة تؤدى الى تعميم الصلاحيات ذاتها على الفقهاء ، هذا بديهى البطلان ، فلا ولاية للفقيه من الأساس .
- ان قيام حكومة الفقيه يؤدى الى احد امرين : اذا ظلم الفقيه حل الخراب فى الارض وفسدت حكومته ، واذا عدل استقامت الامور بحيث يمكن الاستغناء عن الامام صاحب الزمان ، وبما ان هاتين الفرضيتين باطلتان شرعيا ولا يمكن الايمان بهما ، فلا يبقى الا رفض ولاية الفقيه من جذورها .
- اخبار كثيرة تفيد بأن كل راية تظهر قبل الإمام صاحب الزمان هى راية ضلالة ، ويستشهد اصحاب هذا الرأى بروايات عديدة منها رواية أبى بصير عن الإمام الصادق انه قال : " كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها ظاغوت يعبد من دون الله عز وجل " .. كنا ان هناك اخبارا تؤكد على لزوم السكون والهدوء ما دام الإمام غائبا ، ومنها رواية سدير الصيرفى عن الامام الصادق انه قال : " يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من احلاسه ، واسكن ما سكن الليل والنهار ، فاذا بلغك أن السفيانى قد خرج ، فارحل الينا ولو على رجلك "
وقد استمر عدد كبير من فقهاء الشيعة على معارضتهم لفكرة ولاية الفقيه العامة الى ان تحولت راهنا مع الإمام الخومينى من مجرد فكرة الى خطاب تم من خلاله توسيع صلاحيات الفقيه لتشمل القيادة السياسية وامور الحكم ، وبالرغم من التبنى الرسمى الإيرانى لم يحظ الخطاب ( الولايتى ) بالإجماع فى الوسط الشيعى ، فلا زالت المواقف المخالفة تحتل مكانها البارز .
- ان قيام حكومة الفقيه يؤدى الى احد امرين : اذا ظلم الفقيه حل الخراب فى الارض وفسدت حكومته ، واذا عدل استقامت الامور بحيث يمكن الاستغناء عن الامام صاحب الزمان ، وبما ان هاتين الفرضيتين باطلتان شرعيا ولا يمكن الايمان بهما ، فلا يبقى الا رفض ولاية الفقيه من جذورها .
- اخبار كثيرة تفيد بأن كل راية تظهر قبل الإمام صاحب الزمان هى راية ضلالة ، ويستشهد اصحاب هذا الرأى بروايات عديدة منها رواية أبى بصير عن الإمام الصادق انه قال : " كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها ظاغوت يعبد من دون الله عز وجل " .. كنا ان هناك اخبارا تؤكد على لزوم السكون والهدوء ما دام الإمام غائبا ، ومنها رواية سدير الصيرفى عن الامام الصادق انه قال : " يا سدير الزم بيتك وكن حلسا من احلاسه ، واسكن ما سكن الليل والنهار ، فاذا بلغك أن السفيانى قد خرج ، فارحل الينا ولو على رجلك "
وقد استمر عدد كبير من فقهاء الشيعة على معارضتهم لفكرة ولاية الفقيه العامة الى ان تحولت راهنا مع الإمام الخومينى من مجرد فكرة الى خطاب تم من خلاله توسيع صلاحيات الفقيه لتشمل القيادة السياسية وامور الحكم ، وبالرغم من التبنى الرسمى الإيرانى لم يحظ الخطاب ( الولايتى ) بالإجماع فى الوسط الشيعى ، فلا زالت المواقف المخالفة تحتل مكانها البارز .